"البعث". ولا جديد في ذلك لأن الدولة السورية تقدم نفسها إعلامياً ودبلوماسياً منذ عقود على أنها دولة مركزية شديدة الأهمية في العالم. وفي احتفالات العودة الى الجامعة العربية، تصبح سوريا في الوصف الرسمي "دولة مؤسسة تقود الإجماع العربي نحو مستقبل من أجل الوحدة وإزالة الحدود الاستعمارية ومقاومة إسرائيل".
تصدير هذه النسخة الوهمية من سوريا طوال عقود، عبر الإعلام الموجه والتعليم المؤدلج والعزلة الثقافية، خلق بدوره إحساساً بالتفوق لدى السوريين أنفسهم، جعلهم يرون أنفسهم أهم من بقية البشر. ويلاحظ ذلك بوضوح مثلاً لدى الفنانين السوريين بوصفهم طبقة دائمة الحضور في الفضاء العام بالتصريحات والعمل، حيث يرددون منذ ثمانينيات القرن الماضي بأن الفن السوري أهم من الفن المصري، وبأن الفن لا يتواجد في لبنان لولا دعم سوريا، وبأن الممثل السوري يتفوق على أقرانه العرب بمراحل، وغيرها.
وبالطريقة نفسها، يتمظهر الخطاب ذاته في لغة الشارع اليومية، ومختلف مجالات الحياة، مترافقاً مع ضخ ديني يصوّر سوريا، ودمشق تحديداً، بأنها أرض مباركة. وليس غريباً أن تكون عبارة "أنا سوري آه يا نيالي" واحدة من أشهر العبارات الدارجة التي قدمتها "الثقافة" المحلية.
نزعة التفوق هذه تفسر، إلى حد ما، إحساس السوريين الدائم بالمظلومية، سواء كانوا موالين أم معارضين لنظام الأسد منذ العام 2011. الطرفان يعتقدان بوجود مؤامرة تستهدفهما شخصياً بسبب الخوف من الحضارة السورية في حالت قامت من تحت الرماد! وهي اليوم تشكل أساس التعامل السوري مع العالم، حيث ينظر السوريون لمشكلتهم المتلخصة في الأزمة السياسية المستعصية على الحل والتي أفرزت لاجئين ومشردين ومفقودين ومعتقلين وضحايا ومدناً مدمرة ومليشيات ناشطة واحتلالاً أجنبياً وتنظيمات جهادية، على أنها قضية مركزية للدول الأخرى التي لا ترى ذلك بالضرورة، لأن سوريا نفسها غير مؤثرة كثيراً، بقدر ما هي "مزعجة".
وإن كان الموالون يُجبَرون اليوم على إخفاء انتقاداتهم للانفتاح على الدول العربية "الشريكة في سفك الدم السوري"، حسبما كان الإعلام السوري يردد طوال سنوات، فإن المعارضين كانوا وما زالوا يتحدثون عن أن المجتمع الدولي تركهم وحيدين من دون دعم، رغم أن المعارضة السياسية في البلاد، ككيان سياسي، لم تقدم للعالم سوى صورة فاقعة لمعنى أن يكون المرء سورياً، من ناحية التفكك والعزلة وتكرار الخطاب الأسدي بطريقة أو بأخرى، إلى حد أن بعض قادة المعارضة
مثل أسعد الزعبي عبروا ضمنياً عن رغبة في إبادة انسانية على طريقة الرئيس العراقي السابق صدام حسين، كما أن تلك المعارضة لم تقدم خطاباً متقدماً لصالح النساء والأقليات وغيرهم.
ضمن هذا الجو، لعب النظام السوري على النفس الطويل، ووجد نفسه العام 2010 في منطقة جديدة كلياً عليه، لأن المنطقة ككل غرقت فجأة في الأزمات ولم يعد التهديد بإثارة عدم الاستقرار كافياً من أجل ابتزاز المحيطين به. وعدم أهمية سوريا بالتحديد، هو ما أبقى النظام على قيد الحياة، حيث كان النظام مستعداً للمغامرة عسكرياً ضد شعبه وتجاوز الخطوط الأميركية الحُمر باستخدام الأسلحة الكيماوية، لأن المنطق الواضح يقول إن أحداً لم يكن على استعداد لتدخل عسكري ضده على غرار إطاحة صدام حسين العام 2003، وهو الحدث الذي كان مخيفاً للنظام السوري حينها، إلى حد أنه بعد اغتيال لرئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، اضطر للانسحاب من لبنان والانفتاح قليلاً على الغرب، ولو لم يستمر ذلك طويلاً.
ومع عودة الاستقرار إلى دول الربيع العربي تدريجياً، بصورة ثورات مضادة قتلت أي أمل في الديموقراطية، فإن سوريا عادت لتمثل مصدر التقلبات في المنطقة، وبرزت فيها تجارة المخدرات وحضور الجهاديين وأزمة اللاجئين والتغير الديموغرافي والحضور الإيراني، كنقاط تريد المنطقة تجاوزها. خصوصاً بعد الحرب الروسية في أوكرانيا، وتغير ديناميكية أسواق الطاقة، وازدياد الحاجة لمد أنابيب الغاز نحو أوروبا التي أنهت اعتمادها على موارد الطاقة الروسية، كمشروع أثار نزاعات طويلة في البحر المتوسط.
لكن ذلك الرهان العربي لن يقود إلى نتائج لأنه لا يُعالِج جذور المشكلة في سوريا، وهي أن النظام الحاكم فيها يعيش على الأزمات وتصديرها وابتزاز الآخرين بها. ومهما كانت المشكلة التي يبدو أنه تُحلّ اليوم، فسيتم خلق غيرها أو إعادة تدويرها نفسها بشكل جديد، غداً أو بعد غد.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها