الإثنين 2023/11/27

آخر تحديث: 14:19 (بيروت)

إغلاق "أورينت": هل يحتاج السوريون إعلاماً شعبوياً أصلأً؟

الإثنين 2023/11/27
إغلاق "أورينت": هل يحتاج السوريون إعلاماً شعبوياً أصلأً؟
استديو الأخبار
increase حجم الخط decrease
بعد أكثر من عقد على الثورة في سوريا ضد نظام بشار الأسد، اختفت غالبية المشاريع الإعلامية داخل البلاد وخارجها لتغطية أخبار الحراك الشعبي الذي طالب بالحريات السياسية، وما تبعه من حرب أهلية مدمرة، بعيداً من التعتيم الرسمي والبروباغندا المحلية، بما في ذلك قناة "أورينت" التي بدأت بثها العام 2009، وشبكة "بلدي نيوز" التي انطلقت العام 2015، وكلاهما أعلن نهاية التجربة الأسبوع الماضي.

لسنوات، كان الإعلام المعارض مصدراً شبه وحيد للمعلومات في سوريا، وعمل فيه ناشطون مستقلون ومدونون وأشخاص لم تكن مهنتهم الصحافة في بلد شمولي يشكل فيه الإعلام ناطقاً باسم السلطة لا أكثر، منذ ستينيات القرن الماضي على الأقل، بشكل تفاقم بعد الانقلاب العسكري الذي أوصل عائلة الأسد للسلطة العام 1970، خصوصاً أن النظام بعد العام 2011، اعتبر الثورة "فبركة إعلامية" وطرد مراسلي وسائل الإعلام العربية والأجنبية تباعاً بتهمة "التحريض"، واعتمد على "الإعلام المقاوم" لإيصال وجهة نظره عن الأحداث في البلاد، معززاً ضخ البروباغندا الرسمية عبر الدراما ومواقع التواصل إلى جانب الإعلام التقليدي.

ورغم ذلك، فإن أداء وسائل الإعلام البديلة كان متفاوتاً من ناحية مهنية، ولطالما واجهت انتقادات بسبب طبيعة تمويلها، رغم أن التمويل بحد ذاته لا يشكل تهمة كونه يعتبر عصب الإعلام المعاصر حتى في الدول الغربية حيث تعاني المؤسسات الإعلامية مشاكل اقتصادية في عصر السوشيال ميديا. ومع ذلك، وُصفت وسائل إعلام وصحافيون وناشطون بالعملاء لجهات خارجية، ليس فقط من قِبل النظام السوري والموالين له كما هو متوقع، بل حتى ضمن المعارضين أنفسهم مع تشتت المعارضة سياسياً بالدرجة الأولى.

والحال أن عدد وسائل الإعلام السورية بعد الثورة زاد عن 600، في فترة من الفترات، تنوعت بين مطبوعات وإذاعات وقنوات تلفزيونية ومواقع إلكترونية، تحت مسمى "الإعلام السوري البديل"، إلا أن معظم تلك الوسائل توقف عن العمل لأسباب تتعلق بالجوانب المادية بالدرجة الأولى. فقد كانت تلك المشاريع، التي أشرف عليها ناشطون محليون، رد فعل طبيعياً على عقود من قمع حرية التعبير وتدجين الإعلام في سوريا الأسد. كما كانت الطريقة الوحيدة لبث ما يجري في سوريا من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، للعالم.

ومنذ العام 2016 بدأت عقود الرعاية والتمويل التي حظيت بها تلك الوسائل تمر بمرحلة تقييم روتينية، لم تسفر في معظمها عن إعادة تجديد عقود الرعاية، حتى أن مؤتمراً أقيم في بيروت العام 2017 لمناقشة تلك الأزمة. ومنذ ذلك التاريخ، راحت السردية المعتمدة بين السوريين عموماً، تفيد بتخلي المجتمع الدولي عن السوريين "مرة أخرى"، حتى في المجال الإعلامي، في تكرار لمقولات تفيد بتخلي الغرب عن المعارضة سياسياً وعسكرياً. وزادت حدة خطاب المظلومية هذا، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا العام 2022 وما تلاه من دعم غربي لكييف.

على أن عقود التمويل والرعاية عموماً، تكون محدودة بسقف زمني، لأن الغاية منها هي أن تقف المؤسسات الإعلامية على قدميها وتتحول إلى مشاريع ناجحة تستطيع تأمين تمويلها، وهو ما لم يكن حاضراً في التجربة السورية التي لطالما وصفها الصحافيون المعارضون في مواقع التواصل بعبارة "الدكاكين الإعلامية" التي وفرت مصدر دخل لمن يحصل على التمويل مع تقديم الحد الأدنى من العمل الإعلامي المهني في المقابل. وكانت الاتحادات والتجمعات الصحافية السورية الناشئة، تشير دائماً إلى غياب الاحترافية في التعامل مع الموظفين وتطالب بمزيد من الشفافية في تلك المؤسسات من دون طائل.

والسؤال الأهم هنا قد يتعلق بالمضمون نفسه في وسائل كان هدفها الرئيسي تقديم منصة للأصوات المعارضة في البلاد وإفساح المجال لتقديم معلومات مستقلة عن بروباغندا النظام وحلفائه، واحتضان قيم مثل الحرية والديموقراطية والتعددية ومكافحة الإرهاب والتطرف، وهو ما لم تتمكن كافة وسائل الإعلام من تحقيقه، وانعكس في أدائها الإعلامي ككل. وهو ما يشكل على الأغلب واحداً من أبرز أسباب تناقُص الممولين، إضافة إلى الطريق المسدود الذي وصلت إليه سوريا سياسياً وعسكرياً، مع عدم وجود أفق للأزمة التي أعادت تدوير نظام الأسد المحتفظ بالسلطة في بلد مدمر يعيش صراعاً مجمداً، وعدم توفر بديل حقيقي له، غير الجهاديين الذين استولوا على المشهد المعارض منذ 2013.

وتوصلت دراسة أعدتها مؤسسة سمير قصير من أجل حرية الإعلام والثقافة "سكايز"، مطلع العام 2017، في ذروة نشاط الإعلام المعارض، إلى أن الإعلام المعارض بقي لسنوات راديكيالياً وعالقاً عند نقطة العام 2011 من دون تطور حقيقي، ما أفضى لنفور الممولين منه، وتجلى ذلك من ناحية عملية في محرك البحث "غوغل" الذي لم يعط ثقته إلا لثلاث وسائل إعلام معارضة ضمن خدمة "غوغل نيوز".

ولعل "أورينت" تحديداً تشكل مثالاً على تلك الحالة. فهي، رغم انطلاقها قبل عامين من الثورة السورية، كانت تُحسب على الإعلام البديل، خصوصاً أنها كانت تبث من خارج البلاد ولطالما عرفت بحدة مواقفها من النظام السوري، مع عدم وضوح في طبيعة تمويلها باستثناء القول أنها تتبع لرجل الأعمال غسان عبود. وفيما يتم ذرف الدموع عليها اليوم، باعتبارها أولى وسائل الإعلام السورية التي شكلت متنفساً للسوريين، فإنها في الوقت ذاته، أنتجت خطاباً طائفياً ومذهبياً وعرقياً وقومياً مقيتاً، يدينه معظم الثوار الذين طالبوا بالتغيير وبدولة ديموقراطية وعصرية، وكانت عنصرية "أورينت" ضد الأكراد السوريين تحديداً، شديدة الوضوح إلى حد إطلاق بيانات من صحافيين وناشطين ضد القناة.

هذا النوع من "الشعبوية"، لم يكن حكراً على "أورينت"، بل شكّل أبرز صفات الإعلام المعارض، تحديداً في مواد الرأي التي قد تتحول بشكل خطر إلى منصة لخطاب الكراهية والتحريض الطائفي والعرقي في بلد مأزوم أصلاً. وبالتالي فإن مشاعر الحزن على إغلاق تلك الوسائل الإعلامية ونهاية التجربة البديلة تدريجياً، قد يكون تعبيراً عن حنين للماضي القريب عندما حلم السوريون بالحرية لفترة قصيرة، خصوصاً بين الصحافيين الذين وجدوا فرصاً للعمل وتطوير نفسهم مهنياً، لكن ذلك الشعور يبقى قاصراً، إن لم يلامس سلبيات الإعلام البديل، إلى حد طرح أسئلة جدية وصولاً إلى: هل كان السوريون أفضل حالاً من دون هذا الإعلام، أم لا؟

على أن هذا التطرف في السؤال ليس نتيجة حتمية، خصوصاً أن عدم وجود إعلام مستقل، مهما تفاوتت جودته، يعني الاكتفاء بالإعلام الرسمي التابع للسلطة، مع الإشارة إلى أن كل وسيلة إعلامية سورية عاشت تجربة مختلفة كلياً عن نظيراتها. كما أن مشاكل عامة، مثل الخطاب الشعبوي وخطاب الكراهية، رغم شيوعها، تبقى ظروفاً يمكن تجنبها عبر التدريب المهني وتطبيق الملاحظات من الجهات الممولة على سبيل المثال، من أجل خلق مسار أفضل لتطور المؤسسات نفسها ضمن بيئة جديدة كلياً على السوريين الذين عاشوا عقوداً من الحكم الشمولي، وهو ما لم يكن حاضراً بشكل كافٍ للأسف طوال العقد الماضي.

ولا يبدو أن الإعلام البديل في طريقه للزوال نهائياً، رغم التقاربات الإقليمية مع نظام الأسد في العامين الأخيرين. ففي كانون الثاني/يناير الماضي، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أنها ستخصص نحو 15 مليون دولار لدعم وسائل الإعلام المستقلة في سوريا من أجل تحسين إمكانية حصول السوريين على معلومات غير منحازة ومكافحة المعلومات المضللة، والنهوض بحقوق الإنسان وتمكين السكان المهمشين، ومعالجة قضايا النوع الاجتماعي، ودعم تغطية العملية السياسية السورية لتسهيل الشفافية وتعزيز التفاهم العام، وغيرها.

على أن نوعية المشاريع الجديدة قد تكون مختلفة بالاعتماد على مواقع التواصل، خصوصاً أن الجهات الحاكمة على الأرض تمارس قمعاً مماثلاً للصحافة في مناطق سيطرتها. وفي تصريحات سابقة لوسائل إعلام أميركية، علق إنريكو دي أنجيليس، المستشار في " Free Press Unlimited"، وهي مجموعة مناصرة للصحافة مقرها هولندا: "حتى في المناطق التي يسيطر عليها النظام، تغير استهلاك وسائل الإعلام بشكل كبير خلال الصراع في البلاد، واللجوء إلى الشبكات الاجتماعية يعني الوصول إلى معلومات وأخبار أكثر توازناً لعدم الاعتماد فقط على رواية الحكومة للأحداث الجارية".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها