يعود المشهد مرة أخرى: رجل ينتشل جثة طفل مشوّه من الركام. يرفعه عالياً نحو سماء غير مؤكدة، يصرخ أو يهرول أو يتماسك، فننتفض ونبكي ونحنق ونقسم ألا ننسى! كم مرة شاهدنا ذلك من قبل؟ صور أطفال غزة اليوم فائضة بدمائهم الطاهرة ولا تسطيع كاميرا أن تنقلها. صورٌ أقوى من العين. صورهم تكرار لأطفال آخرين سُحقوا وأحرقوا، كالفتاة المتدلي رأسها من سيارة الإسعاف في قانا 1996، أو محمد الدرة المختبئ خلف أبيه في انتفاضة الأقصى 2000، أو غيرهم كثر من الأطفال الفقراء منذ أواخر الأربعينات، كان ذنبهم فقط أنهم فلسطينيون وعرب في عالم ما زال يعتبر، اليوم أكثر مما مضى، أن العربي الجيد هو العربي الميت.
هؤلاء الأطفال شكلوا ذاكرتنا الجماعية عن حرب مديدة لم نستطيع أن نرى فيها أبعد من دمنا وكلماتنا التي نكتبها لنعزي نفسنا أو لنقنعها بأن ثمة من يكترث، ثمة عدالة في مكان ما هنا أو في السماوات نقدّم لها وثائقنا الحُمر.
لا شيء لصيقاً بالحرب كالعري! الحرب فضيحة كبرى تعرّي الجميع: صحيح أن المقتول ينفلش لحمه أمام العالم، صحيح أن المدينة كلها تصبح كتلة بشرية واحدة تتلقى الحرق والطعن على مرأى من الأعزاء المشاهدين، لكن القاتل لا يقلّ عرياً. القاتل عار من إنسانيته، كائنٌ خرافي، آلة بلا ملامح تسير فيها الكراهية بدلاً من الدم.
تشير سوزان سونتاغ في كتابها "عن ألم الآخرين"، إلى أن صورتنا عن الحروب تتشكّل غالباً من رؤية المشاهد الجانبية المروّعة، مشاهد اللا-مقاتلين الذين يسقطون، لا مشاهد قتال العسكريين، وبأن رد الفعل لدى الرائي يكون غالباً التجييش لحرب آتية أو السعي إلى السلام. سونتاغ تسنتج أن ضحايا الحرب لا يهمهم فعلاً أن نراهم لأننا لن نفهم أبداً الذعر الذي عاشوه، لن نفهم الموت الذي داهمهم، هم غير مهتمين بنا ولا حتى بالقاتل، لكن الصور تنقل لنا ما عاشه الناجون من مقاتلين وصحافيين ومصوّرين وعاملين في القطاع الصحي. الصور نوع من مشاركة هذا اللافهم، بين من لم يكونوا هناك، ومن كانوا.
أما النوع الآخر من العري، الذي تفرزه الحروب، فهو عري المواقف، عري الكلمات التي تفوح منها رائحة الخيانة، العري المتلوّي على الألسنة، حتى الصامتة منها. ففي الحرب، الصمت أيضاً موقف، ومشاركة في الجريمة.
كنت عند صديقتي، وطبعاً كانت الحرب ضيفتنا. قالت لي بأنها لا تتابع شيئاً، "تعود لي ذكريات الطفولة في الجنوب اللبناني، فأركض مرة أخرى برعب بين البيت وأشجار الزيتون". فكّرت بما قالته، أنا التي عانيت لسنوات طويلة من الأرق بسبب حرب تموز 2006 التي عشتها في بيروت، وأرّختُ بتلك الحرب مفاصل حياتي. ومن منا لم يفعل؟ فلكل جيل حربه الخاصة ووشومه الكثيرة التي لا يمحوها الوقت ولا الماء. لكن الجديد هو أن تعيش الحرب داخل عظامك، أن تضطر إلى ابتلاع مواقفك، وأن تشاهد عمليات التزوير الكبرى التي يقوم بها الإعلام الأميركي. فكلما فتحت اللابتوب أو قررت أن تمشي في المدينة الأميركية، تطالعك شعارات الدعم لإسرائيل، فلا تعرف هل تضحك أم تبكي، هل توقف المارة واحداً واحداً وتشرح لهم، أم تطلق اللعنات؟
ثم عمَّ ستخبرهم؟ فأنت متعب وحانق وحزين. تلتصق مرة أخرى بالتلفزيونات العربية، تتابع تحليلات ومحللين، تهليلات بالنصر والدم بحر. تقرأ، تشاهد، تسمع ثم تقفل كل شيء وتعود إلى غضبك. تحضن أولادك، فتتألم لآباء وأمهات لن يستطيعوا أن يحضنوا أولادهم مثلك. تأكل، فتذكر الطفل الذي قال بأنه يرغب في الموت لأن في الجنة طعام. تعود للإعلام العربي طبعاً، بدلاً من التسمم بلغات أجنبية. تتابع مناقشات غريبة، مفاضلات بين دم الطفل الفلسطيني ودم الطفل السوري. تضع رأسك تحت الماء: متى تنتهي الحرب؟ متى تنتهي الحرب؟ لقد هربت بعيداً من الخريطة، لكنها معك، فيك.
عري فقط. أجساد غضة تواجه أعتى أسلحة العالم المدعومة بأعتى بروباغندا. علينا أن نُقتل ونحن صامتون. أن نشاهد مرة أخرى، بحياد، ذبحنا. أن نرى جمع التبرعات للقاتل في المدارس ودور العبادة والمستشفيات. تسأل نفسك: هل نحن بشر؟ لماذا أخرجونا وكيف؟ ينظر إليك الهندي الأحمر الأخير بشفقة: أنت أيضاً على أرضي..
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها