برز مستشفى الشفاء في مدينة غزة في صدارة حملة إسرائيل الإعلامية المُرافِقة لحربها العسكرية المستمرة على غزة منذ أكثر من شهر. لكنّ المعالجات الإعلامية الحَدثيّة لم تتح رواية جوانب مهمة لحكاية المستشفى كاملة؛ لفهم البُعد الإعلامي والسياسي والعسكري لتركيز الحملة الإسرائيلية عليه إلى جانب مستشفيات أخرى في شمالي قطاع غزة.
وبذلك، تبحث اسرائيل عن انتصار، فقامت بتركيز الأنظار الاعلامية على مستشفى "الشفاء" لتسويق انتصار مزعوم في حال السيطرة عليه، وتتجاهل كامل الاخفاقات العسكرية والسياسية الاخرى، بمعنى تشتييت الانظار عن كل التفاصيل وتركيزها على هدف واحد، تمهيداً للبناء عليه للخلاص من أزمة الانكسار في حرب غزة.
تأسيسه وأهميته
يُعتبر "الشفاء" أكبر مجمع طبي في القطاع، يضم ثلاثة مستشفيات متخصصة، ولعب دوراً كبيراً في خدمة السكان قبل الحرب، وخلالها. كما يحتضن نحو 25 في المئة من مجمل العاملين في مستشفيات القطاع كلها.
وتم إنشاؤه في عهد الانتداب البريطاني العام 1946، ثم بنت مصر مرافق للمستشفى خلال سيطرتها على غزة. وعند احتلال القطاع، أجرت إسرائيل عملية توسعة كبيرة للمستشفى العام 1980.
وقال خبير الأمن الإسرائيلي روني شاكيد لتلفزيون "مكان" العبري إنه شهد خلال توليه منصباً أمنياً، عملية التوسعة للمستشفى قبل 43 عاماً، مشيراً إلى أنّ شركة هندسية إسرائيلية تولت مهمة تصميم المستشفى بإشراف جيش الاحتلال. ووفق شاكيد، ثمة شبه كبير بين "الشفاء" ومستشفى إسرائيلي في مدينة الخضيرة داخل الخط الأخضر؛ لأن مُصمّم مخطط البناء هو مهندس واحد.
خرائط المستشفى في يد إسرائيل
لكنّ الشيء الأهم في ما رصدته "المدن" في حديث روني شاكيد هو أن "الملاجئ" الموجودة تحت مستشفى الشفاء كانت قد صممتها شركة هندسية إسرائيلية، واستخدمتها القيادة العسكرية الإسرائيلية في ذلك الحين، أي قبل تولي السلطة الفلسطينية زمام الأمور في غزة بموجب اتفاق أوسلو العام 1994. ويشكل هذا الحديث دليلاً على أن إسرائيل هي من صممت الأنفاق تحت المستشفى واستخدمتها لأغراض عسكرية، وليست حركة "حماس"، أو أي جهة فلسطينية أخرى.
وهذا يقود إلى الاستنتاج بأن جيش الاحتلال يمتلك خرائط تفصيلية لكل مرافق مستشفى الشفاء الداخلية وتحت الأرضية، وهو أمر يقر به شاكيد نفسه.. بيدَ أنه نوه بأن إسرائيل "لا تعلم إذا كانت حماس قامت بربط أنفاق الشفاء المصممة إسرائيلياً بأنفاق جديدة تصل إلى منطقة أخرى".
الحملة على "الشفاء" منذ 15 عاماً
الواقع أن دعاية الاحتلال الإسرائيلي عن وجود قيادات سياسية وعسكرية لـ"حماس" في أنفاق تحت "الشفاء"، ليست وليدة الحرب الحالية كما يعتقد البعض، بل بدأتها تل أبيب قبل 15 عاماً وتحديداً خلال حرب 2008، ثم صعدتها بوتيرة أكبر في حرب 2014، لكن المستشفى عاد ليتصدر حملة إسرائيلية مكثفة وغير مسبوقة، بموازاة شن الاحتلال عملية برية لفرض حصار عليه ضمن ما يُعرف بمربع المستشفيات في مدينة غزة، فاتخذ الأمر بعداً متمثلا بـ"كسر العظم" على وقع تشديد الخناق عليه بالدبابات والقصف الجوي، والضغط لإفراغه من الأطباء والمرضى والجرحى والنازحين وسط ترقب لاقتحامه في أي لحظة.
وفي حين تذرعت إسرائيل بوجود قيادات لـ"حماس" وذراعها العسكري في المستشفى ومستشفيات أخرى تتم محاصرتها في مدينة غزة وشمالها، نقل الإعلام العبري تقديرات عسكرية بأن هذه القيادات قد غادرت "الشفاء"، لكنها زعمت أن البنية العسكرية للحركة موجودة تحت المستشفى، وهو ما تنفيه "حماس" باستمرار.
ومع تشديد الخناق على "الشفاء"، صعدت إسرائيل حربها النفسية والإعلامية على الفلسطينيين عامة و"حماس" خاصة، لضرب الجبهة الداخلية في غزة، وإجبار من تبقى في هذه المستشفيات على النزوح جنوباً.
حصار.. للمفاوضات
ويبدو أن "الشفاء"، ومعه مستشفيات أخرى، باتت وسيلة ضغط إسرائيلية على "حماس"، بل محرك مفاوضات معها، وكأن الاحتلال يفاوض "حماس" من داخل غزة وتحديداً من ساحة حصار المستشفيات.
وهذا ما يُستشف مما ذكرته وسائل إعلام عبرية بشأن إيقاف "حماس" مفاوضات لإطلاق عشرات المحتجزين الإسرائيليين بسبب حصار الجيش الإسرائيلي للمستشفيات، وضغطه لإخلاء جميع الموجودين فيها.
وبينما يتصدر "الشفاء" عناوين محطات التلفزة العبرية، رصدت "المدن" قيام مذيع "مكان" بمقاطعة محلل الشؤون الأمنية والسياسية في التلفزيون الإسرائيلي محمد نجيب، حينما قال إن "إسرائيل تمنع دخول الوقود إلى مستشفيات غزة"، لكن المذيع سارع إلى قطع كلامه والانتقال إلى سؤال آخر؛ لأن نجيب كذَّب بكلامه عنواناً رئيسياً لـ"مكان" يدعي أن "حماس منعت إدخال الجيش الإسرائيلي وقوداً إلى الشفاء".
لماذا "الشفاء"؟
تقول مصادر من غزة لـ"المدن" إن تحول المستشفى إلى محور الصراع في الأيام الأخيرة هو أمر مقصود من كل الأطراف.. فحماس تحاول أن تحصر ضغط الجيش الإسرائيلي في محيط المستشفيات وعدم وصوله لأوراق ضاغطة أخرى عليها.
في حين، توظف إسرائيل المستشفيات كورقة تفاوض قوية مع "حماس" لإجبار الحركة على القبول بتسوية لنهاية الحرب بسقف إسرائيلي، بموازاة عمل الاحتلال على أخذ صورة انتصار من داخل "الشفاء"، تدلل بها على دعايتها المزعومة بشأن وجود بنية عسكرية لـ"حماس" داخل المستشفى ومرافق مدنية أخرى.
عدا عن أن "الشفاء" يمثل مؤسسة سيادية فلسطينية، ما يجعله سبباً آخر لاستهدافه من الاحتلال وإخراج من فيه بطريقة مشهدية تحاول أن تبعث برسالة "إذلال" للفلسطينيين، بالترافق مع "تحقيق" مخطط التهجير الشامل لجميع سكان المنطقة الشمالية نحو الجنوب، وهي غاية إسرائيلية منشودة تحت مزاعم "بنية القسام العسكرية"، ما يعني أن تضخيم "الشفاء" كهدف عسكري مرتبط بمخطط التهجير وخلق واقع جديد.
مع ذلك، لا يستبعد بعض الخبراء أن استهداف "الشفاء" ومراكز صحية أخرى، له هدف آخر للاحتلال، ويتمثل في محاولته العثور على أي طرف خيط بشأن ضلوع بعض المستشفيات أو الأطباء بعلاج أسرى إسرائيليين، علّه بهذه الطريقة "يتمكن من الوصول إلى أسراه ويستعيدهم من دون ثمن تطلبه حماس".
منبر.. للرواية الفلسطينية
بقي أن نشير إلى غاية إسرائيلية أخرى، وهو عمل الاحتلال على طمس الرواية الفلسطينية التي يمثل مستشفى الشفاء منبراً مهماً لها، ففيه يتمركز عشرات الصحافيين والمصورين الموثقين لجرائم الاحتلال تباعاً، ومن ساحات "الشفاء" ومستشفيات أخرى يعقد ناطقون باسم حماس وفصائل أخرى مؤتمرات صحافية خلال الحرب، ومنها تنطلق المنشادات بوقف حرب الإبادة في غزة.
إذن، تعتقد إسرائيل أنها باستهداف "الشفاء" وبقية مربع مستشفيات غزة، ستتمكن من ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، فمن ناحية تضربها بوصفها آخر المؤسسات السيادية الفلسطينية المتبقية بعد تدمير كل شيء، وبما تمثله كأحد مقومات الصمود للغزيّين. ومن جهة ثانية، تضرب الرواية الفلسطينية، بما يمكنها من فرض تهجير لسكان شمال القطاع؛ لتسهيل تنفيذ مخططها بفرض واقع جديد في المنطقة بلا رواية فلسطينية تكشف للعالم حقيقة ما حصل.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها