لاتزال الدراما العربية خجولة في تناول حكايات القتلة المتسلسلين، فلم يتم إنتاج سوى عددٍ محدودٍ جداً من المسلسلات والأفلام العربية التي تنتمي لهذه الفئة التي بدأت مُبكراً مع ريا وسكينة، وبدت أنها توقفت بعدها. لكنها عادت في الأعوام الاخيرة بعد أن ساهمت المنصات التي تنقل المسلسلات الأجنبية المترجمة بازدياد شعبيتها.
لذلك استقبل الجمهور إعلان مسلسل "سفاح الجيزة" بحماسة قبل أن يُعرض على منصة "شاهد"، خصوصاً وأن العمل استوحيت أحداثه من قصة قاتل متسلسل حقيقي. كانت التوقعات عالية للغاية مع عرض الحلقات الأولى منه، وتمت مقارنته بمسلسلات عالمية كمسلسل "دامر"، الذي عرض على "نتفليكس" في العام الماضي، ولكن المسلسل سقط بشكل صاروخي من بعد عرض الحلقة الخامسة منه، وانتهى بشكل كارثي؛ الأمر الذي أدى لانتشار تعليقات تعبّر عن استياء المتابعين في مواقع التواصل الاجتماعي بعد انتهائه.
المشكلة الأساسية في المسلسل أن كتابّه، محمد صلاح عذاب وعماد مطر، اختارا تناول قصة قاتل متسلسل لا يزال على قيد الحياة، وهو قذافي فراج عبد العاطي، الذي لقبه الإعلام المصري بـ"سفاح الجيزة"، بسبب ارتكابه سلسلة من الجرائم على مدار سنوات ما بين الجيزة والإسكندرية، وتم إلقاء القبض عليه عام 2020 بعد خمس سنوات من ملاحقته، وصدر حكم الإعدام بحقه منذ ذلك الحين، إلا أن الحكم لم يتم تنفذه حتى اليوم.
هذا الأمر ترك الكتّاب أمام تحدي خلق دراما، أحداثها لا تبدو جديدة بالنسبة للشارع المصري، فحياة عبد العاطي وجرائمه كانت حديث السوشيال ميديا لمدة طويلة؛ وذلك دفع الكتّاب إلى إجراء بعض التعديلات على أحداث القصة الأصلية، لكن التعديلات كانت باهتة ومن دون معنى، لا تصل إلى حد الإبداع في الجزء المتخيل من القصة، وأفقدت المسلسل مصداقيته وطابعه التوثيقي.
الانطباعات كانت جيدة في بداية المُسلسل، وكان أغلبها مُتعلقاً ببطل المسلسل، الكوميديان أحمد فهمي، الذي يؤدي بطولة أول عمل درامي، وقد كانت معظمها إيجابية. وزادت الحماسة حول المُسلسل بعض التفاصيل الخاصة بالشخصية التي أصبح اسمها "جابر"؛ ففي الحلقتين الأولى والثانية استطاع المخرج هادي الباجوري أن يكوّن ملامح مثيرة درامياً وجذابة لشخصية السفاح، وخصّص للشخصية العديد من الملامح البارزة والتصرفات المُثيرة للريبة، لاسيما في مشاهد الطبخ، والأهم أنه بدأ بتكوين نمط معين للسفاح في القتل، فـ"جابر" يمارس طقوساً معينة قبل أن يُنقذ جرائمه، يقدم لهم الهدايا ويُسعدهم قبل قتلهم، فقام بخنق عمته بعد أن قضى معها يوماً كاملاً وقدم لها الحلويات المفضلة لديها، وقتل عشيقته بعد أن قضى معها وقتاً حميماً وأهداها عقد من الذهب. لكن هذه الملامح الجذابة بدأت تتلاشى مع توالي الحلقات، فتحول "جابر" من قاتل متسلسل له نمط واضح إلى مجرد قاتل عشوائي انفعالي يعتمد على الصدفة.
بعض مشاكل المسلسل بدأت مبكراً، كالتنقل المتكرر بين المراحل الزمنية المختلفة من حياة السفاح "جابر"، من دون أن يكون لذلك التنقل أي بعد درامي أو فائدة في تكوين الملامح النفسية لشخصيته. تركت تلك التنقلات المشاهد في حالة من الضياع والتشويش وخصوصاً لدى الجمهور غير المصري، الذي يجهل تفاصيل جرائم سفاح الجيزة الحقيقي.
الانتقال من جريمة الى أخرى من دون تفسيرات نفسية أو دوافع درامية لارتكابها، ومن دون أن يتم بناء علاقة درامية بين السفاح وضحاياه، كان مثيراً لوهلة، قبل أن تتحول الحكاية بعد الحلقة الخامسة إلى حكاية بوليسية تقليدية، تشبه إلى حد كبير كيفية تعاطي الشرطة وأجهزة الأمن في الدراما العربية مع المجرمين. وتنتهي الحكاية بتصوير "جابر" بطريقة نمطية، كشخص شرير بالفطرة، من بيئة شعبية وأسرة مفككة، من دون تحليل وفهم الأسباب والدوافع النفسية والعقلية التي جعلته سفاح فعلاً. وفي النهاية يتم سد الثغرة بالطريقة المعتادة، بإلقاء اللوم كاملاً على التربية، وتحميل أم السفاح مسؤولية جرائمه!
ففي الجزء المتخيل من الحكاية، يحاول الكتاب إلقاء اللوم كاملاً على أم السفاح التي تلعب دورها حنان يوسف، لأنها قتلت زوجها أمام أعين أطفالها بشكل شنيع، وقطعته وباعت لحمه في السوق من دون أي تبرير درامي مقنع؛ فكل ما يهم في هذه المشاهد هو إعطاء مبررات للشر الكامن بشخصية "جابر".
انتهى المسلسل بأسوأ شكل ممكن، بانتصار رجال الشرطة المتكرر بكل الحكايات الدرامية، من دون الاستفادة من أي تفصيل جميل تم إقحامه في صلب المسلسل؛ كمسألة هوس "جابر" بالطبخ مثلاً، الذي بدا مستوحى من أجواء مسلسل "دامر"، فالطبخ فعل مجاني بالمسلسل كأغلب الأفعال، التي لا توجد لها أي قيمة طالما أن وظيفة السفاح الدرامية هي إثبات حنكة وقوة رجال الشرطة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها