تراجع لبنان 23 مرتبة دفعة واحدة في مؤشر حرية الصحافة الصادر عن منظمة "مراسلون بلا حدود" للعام 2022، ليستمر تراجع البلاد التي كانت رائدة في مجال الحريات في الشرق الأوسط لفترة طويلة.
وفي المؤشر الصادر عن المنظمة العالمية التي تتخذ من باريس مقراً لها، الثلاثاء، حل لبنان في المرتبة 130 من أصل 180 دولة. و"بينما ساد الاعتقاد في الأوساط الإعلامية أن ثورة تشرين الأول/أكتوبر 2019 قد كسرت الخط الأحمر المتمثل في عدم انتقاد الشخصيات النافذة، أضحت اليوم الضغوط السياسية على أهل المهنة أقوى وأشد من أي وقت مضى".
وبحسب "مراسلون بلا حدود"، فرغم وجود حرية حقيقية في التعبير داخل وسائل الإعلام اللبنانية، إلا أن هذه الأخيرة تخضع في الواقع لسيطرة مجموعة صغيرة من الأفراد الذين لهم صلات مباشرة بأحزاب سياسية أو ينتمون إلى عائلات معينة، مثل ضاهر-سعد وخياط والمر، التي تمتلك القنوات الأكثر نفوذاً في البلاد ("إل بي سي" و"الجديد" و"إم تي في" على التوالي). أما "المنار" فهي القناة الرسمية لحزب الله.
وتئن وسائل الإعلام اللبنانية تحت قبضة الأحزاب السياسية، حيث يعكس المشهد الإعلامي التركيبة السياسية للبلاد. أضف إلى ذلك اعتماد وسائل الإعلام بشدة على أموال المستثمرين. كما تعكس الصحافة المكتوبة الخلافات السياسية والطائفية التي تشهدها البلاد، ناهيك عن الرقابة الدينية التي تثقل كاهل وسائل الإعلام، التي أصبحت سلاحاً مهماً في الصراع السياسي. كما يتسم الرأي العام بالنزعة المحافظة في الغالب، وتظل بعض المواضيع من المحرمات التي لا يمكن التطرق إليها بأي حال من الأحوال، مثل نقد التراث الثقافي والديني. ولا تخلو الساحة من أحداث تنم عن العنصرية أو تحط من شأن المرأة، علماً أن الصحافيات يتعرضن لحملات التشهير باستمرار. كما ينخرط الناشطون السياسيون في حملات التخويف، خصوصاً الموالين لحزب الله، الذين يستخدمون "تويتر" لتهديد الصحافيين.
وحافظت تونس على صدارة الدول العربية في مجال حرية الصحافة لكنها تراجعت 21 مرتبة بحلولها في المركز 94 بسبب تداعيات سيطرة الرئيس قيس سعيد على السلطة بشكل شبه كامل في تموز/يوليو 2021، علماً أنه منذ وصول سعيد إلى سدة الرئاسة في تشرين الأول/أكتوبر 2019، لم يعد قصر قرطاج يستقبل الصحافيين رغم الاحتجاجات التي رفعتها النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين. كما أصبح ترهيب الصحافيين أمراً شائعاً في الساحة التونسية، حيث يتعرض الفاعلون الإعلاميون لأعمال العنف على أيدي المتظاهرين.
وجاءت قطر في المرتبة الثانية عربياً والمرتبة 110 عالمياً، متقدمة 11 مركزاً عن العام الماضي، حيث بدأ بصيص طفيف من التعددية يرى النور في البلد الذي كان فيه الإعلام متشابهاً. وبرزت مؤخراً منصات يديرها مهاجرون بلغات مختلفة، لكن القوانين الصارمة تبقى مشكلة، كما يطال الاعتقال والترحيل العديد من الصحافيين بسبب اهتمامهم بظروف عمل المهاجرين. ولا تتوانى السلطات عن الزج بالمدونين الأجانب المقيمين على أراضيها بتهمة "نشر معلومات كاذبة".
من جهتها تراجعت السعودية 4 مراكز بحلولها في المرتبة 166 عالمياً حيث تنعدم وسائل الإعلام الحرة في المملكة فيما يخضع الصحافيون إلى مراقبة مشددة حتى لو كانوا في الخارج. ومنذ العام 2017، تزايد عدد الصحافيين والمدونين القابعين خلف القضبان بأكثر من ثلاثة أضعاف، لكن مصر التي جاءت في المرتبة 168 فتبقى واحدة من أكبر السجون في العالم بالنسبة للصحافيين مع ابتعاد البلاد كلياً عن آمال الحرية التي حملتها ثورة 2011.
وبشكل مفاجئ تقدمت سوريا مركزين وجاءت في المرتبة 171 عالمياً، على الأغلب بسبب تراجع الحريات في دول أخرى وليس لظروف تحسن الحريات فيها. وفي هذا البلد الذي يعيش حالة حرب منذ ما يزيد عن عقد من الزمان، يُمنع الصحافيون من دخول بعض المناطق تماماً. ويظل باب التعددية مغلقاً تماماً أمام وسائل الإعلام السورية، التي تُعتبر أدوات لنشر الأيديولوجية البعثية، ما يدفع العديد من الصحافيين إلى المنفى.
ويسيطر بشار الأسد وحزب البعث على معظم وسائل الإعلام السورية، وإن كانت ثورة 2011 قسمت المشهد الإعلامي إلى معسكرين: الإعلام المؤيد للحكومة من جهة، والمنابر المستقلة من جهة ثانية. فخلال المظاهرات الأولى، منعت الحكومة وسائل الإعلام الدولية والمستقلة من دخول البلاد. وفي ظل قلة التأهيل وغياب الاستقلالية المالية، يجد الصحافيون أنفسهم مجبرين على البقاء تحت الوصاية السياسية للحكومة.
وفي ظل مشهد تطغى عليه الاعتقالات والاختطافات والتعذيب والاغتيالات، غالباً ما يُجبر الصحافيون السوريون على العيش في المنفى لتجنب سوء المعاملة أو هرباً من الموت بكل بساطة، علماً أن العديد منهم أُجبروا على العودة إلى بلادهم العام 2019، بعدما كانوا لاجئين في تركيا. وواجه مئات آخرون تهديدات بأن يلقوا نفس المصير، وهو ما كان من شأنه أن يعرضهم للاعتقال من قبل السلطات السورية أو للانتهاكات على أيدي مختلف الجماعات المسلحة، لكن السلطات التركية قررت أخيراً عدم تنفيذ هذا الإجراء في حقهم.
والحال أن التصنيف العالمي الجديد لحرية الصحافة يسلط الضوء على الاستقطاب المزدوج الذي بات يطغى على المشهد الإعلامي العالق في متاهة الفوضى سياسياً، كما يقيم ظروف ممارسة النشاط الإعلامي في 180 بلداً، والآثار الكارثية لفوضى المعلومات العام 2022 حيث أصبح الفضاء الرقمي معولماً وغير منظم، إلى درجة بات يشكل معها أرضاً خصبة لانتشار المعلومات الكاذبة والدعاية.
ففي المجتمعات الديموقراطية، أدى تطور نموذج "فوكس نيوز" الإعلامي وتنامي سُبل التضليل إلى اتساع رقعة الانقسامات، في سياق يطغى عليه استعمال منصات التواصل الاجتماعي. وعلى الصعيد الدولي، تشهد الديموقراطية تراجعاً ملحوظاً في ظل عدم التناسق بين المجتمعات المنفتحة من جهة، والأنظمة الاستبدادية التي تتحكم في وسائل الإعلام ومنصاتها بينما تشن حروباً دعائية، من جهة أخرى. وعلى كلا المستويين، يعُتبر هذا الاستقطاب المزدوج عاملاً من عوامل إذكاء التوترات والنعرات.
ويُعتبر غزو روسيا (المرتبة 155) لأوكرانيا (106) في نهاية شباط/فبراير 2022 مثالاً صارخاً لهذه الظاهرة، حيث تم تمهيد الطريق له بشن حرب دعائية. كما تُعد الصين (المرتبة 175) من بين الأنظمة الاستبدادية الأكثر قمعاً، وهي التي استخدمت ترسانتها التشريعية لفرض حجر على مواطنيها وعزلهم عن بقية العالم، خصوصاً في هونغ كونغ (المرتبة 148)، التي تتراجع بشكل مهول في التصنيف. وفي هذا المناخ، يتعزز منطق المواجهة بين المعسكرات، كما هو الحال بين الهند (المرتبة 150) بقيادة القومي ناريندرا مودي، وجارتها باكستان (المرتبة 157). ومازالت منطقة الشرق الأوسط ترزح تحت مناخ انعدام حرية الصحافة، الذي يخيم على الصراع بين إسرائيل (المرتبة 86) وفلسطين (المرتبة 170) والدول العربية.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها