لا يسعى مرشح اليمين المتطرف للانتخابات الرئاسية الفرنسية إريك زيمور، من اعتياده ذكر لبنان في تصريحاته الإعلامية وتغريداته، إلى تسجيل موقف سياسي من التطورات الداخلية اللبنانية، ولا حتى التصويب على دبلوسية الرئيس إيمانويل ماكرون، بل تتلخص غايته من "فرنسة الملف اللبناني" إلى التنبيه من خطر "لبننة فرنسا"، ما يصب في خدمة مشروعه الانتخابي.
وفقاً لمنطقه السياسي، يرى زيمور في لبنان انعكاساً لمستقبل فرنسا: مقارنته الدائمة بين البلدين مردها إلى مقاربته العنصرية التي ترى في المهاجرين عموماً والمسلمين خصوصاً، تهديداً لتماسك المجتمع الفرنسي وقيمه. ينظر اليهم كجماعة تفرض بالقوة قوانينها الخاصة كما تعزل نفسها في أماكن تجمعها التي باتت "جزراً" منفصلة عن نمط عيش الفرنسيين.
وفق هذا المنطق تشبه العلاقة بين فرنسا والمهاجرين المسلمين العلاقة التي تحكم الطوائف اللبنانية: الديموغرافيا من جهة وتآكل سلطة الدولة من جهة أخرى، يدفعان نحو بروز "جماعات" غير متجانسة ثقافياً، لا يربطها أي عقد اجتماعي وتتناحر في ما بينها، مستحضراً نظرية "الاستبدال الكبير" التي يتمسك بها ولا يتردد في الترويج لها وإعطائها جدولاً زمنياً: في العام 2050 سيشكل المسلمون نصف سكان فرنسا ما سيفضي إلى تلاشي "الشعب الفرنسي الأصيل". حجة لا تستند إلى أي دليل علمي، إحصائياً وديموغرافياً، إلى جانب عنصريتها الفاقعة.
لا يتوقف زيمور أيضاً عن تكرار أن لبنان في الأصل بلد للمسيحيين، محاكياً جمهوره المحافظ دينياً، وكأن نظرية الاستبدال الكبير وجدت طريقها للتطبيق في البلد الشرق أوسطي أولاً وفرنسا هي وجهتها التالية. وليلة الخميس الماضي خلال حلقة تلفزيونية على قناة "France2"، لم يكتف زيمور بتكرار معزوفته تلك، بل رفع السقف حين توجه إلى مقدمة البرنامج ليا سلامة، ابنة الوزيراللبناني والمبعوث الأممي السابق إلى ليبيا غسان سلامة، مذكراً اياها بأصولها اللبنانية.
المقطع الذي
نشره زيمور على حسابه في "تويتر" وكان السبب في انتشاره على نطاق واسع، افتتحه بالقول: "أقاتل كي يرث أبناؤنا فرنسا التي ورثناها عن آبائنا، وليس نموذجاً مكبراً عن لبنان". وأكمل حديثه متوجها إلى الاعلامية اللبنانية الأصل: "سيدة سلامة، أعتقد أنك على دراية بفحوى كلامي"، لتقاطعه قائلة "اترك لبنان وشأنه، لديه ما يكفي من المشاكل"، ليعود ويخاطبها: "عدد كبير من اللبنانيين المقيمين في فرنسا أكدوا على صحة كلامي".
وفيما حاولت سلامة ضبط النقاش متوجهة إليه: "لن نخوض في هذا الموضوع"، انتهى المقطع بجملة زيمور التي اشعلت زوبعة في مواقع التواصل الاجتماعي: "لهذا السبب أنت متواجدة في فرنسا وليس في لبنان".
كلام زيمور لاقى ردود فعل متباينة على مواقع التواصل الاجتماعي: بعضهم أثنى عليه لكنهم لم يحاججوا بالمنطق، بل تهجموا على شخص سلامة ليصفها احدهم
"بالصحافية اليسارية القذرة" ومن قال أن اسمها الأصلي هو
هالة وليس ليا، للدلالة على هويتها الفرنسية غير المكتملة، من وجهة نظرهم. فيما هاجم آخرون زيمور الذي
لم يعد يطاق، فهوية سلامة اللبنانية
تجعلها متمكنة من الملف اللبناني أكثر منه، مسخفين بذلك مقارنته الدائمة بين لبنان وفرنسا. وغرد أحدهم مذكراً بالأصول الأجنبية لأعداد كبيرة من الفرنسيين،
بمن فيهم زيمور نفسه.
يمكن مقاربة كلام زيمور من زوايا متعددة: شكلاً، رغم الحضور الذي تتمتع به سلامة كواحدة من أبرز الإعلاميين الفرنسيين، لا يرى فيها زيمور إلا شخصاً ذا أصول أجنبية وكأن هويتها الفرنسية منتقصة. من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل رمزية أخرى وهي أن زيمور خاطب بتعالٍ إحدى النساء، وهو المعروف بذكوريته الشديدة التي لا يخفيها سواء في اطلالته الإعلامية أو في كتب ومقالات صحافية.
والحال أن هذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها سلامة "للطشة" ذكورية. فخلال الانتخابات الرئاسية العام 2017 ، استضافت سلامة في
إحدى الحلقات الخاصة مرشح حزب الجمهوريين فرنسوا فيون. ولدى سؤاله عن تصريحات متناقضة أدلى بها في أوقات سابقة، رد عليها "اتفهم طرحك لهذا السؤال الذي سبق وأجبت عليه، لقد كنت غائبة في الآونة الأخيرة وهي مناسبة لأبارك لك" في إشارة منه إلى انقطاع سلامة عن العمل بسبب إجازة الأمومة وكأن هوية سلامة الجندرية انعكست سلباً على كفاءتها المهني، علماً أنها ردت على ضيفها بما معناه: "كررت السؤال لأننا على مسافة ثلاثة أيام من الدور الأول".
أما على صعيد المضمون، فإن إدلاء زيمور بهذا الكلام في سياق الرد على قول سلامة "لن نخوض في هذا الموضوع"، يمكن وضعه في خانة التصويب غير المباشر على منتقديه، إذ يعتبر أن عدم طرح مشكلة المهاجرين بالشكل المطلوب سيؤدي إلى مفاقمتها. أما حديثه عن اللبنانيين المؤيدين له، فيمكن وضعه في سياق سحب البساط من تحت أقدام من يطلب منه "ترك لبنان وشأنه" للإيحاء بصحة طروحاته عملاً بمبدأ "وشهد شاهد من أهلها".
وسبق لصحيفة "L'orient Le Jour" نشر موضوع، في كانون الثاني/يناير الفائت، يحاول تفكيك
شعبية زيمور في أوساط حملة الجنسيتين اللبنانية والفرنسية، أياً يكن مكان اقامتهم. وفقاً للكاتبة كارولين حايك، هذه الشريحة وبغالبيتها الساحقة من الذكور اليمينيين (سياسياً) والمسيحيين (دينياً) وتتكامل بداخلهم الهويتان : هم لبنانيون بنسبة 100% كما أنهم فرنسيون بالنسبة ذاتها ولا يتردد بعضهم في تشبيه استقبال فرنسا لمهاجرين ولاجئين من المسلمين، بنزوح الفلسطينيين والسوريين إلى لبنان.
وبعيداً عن المقارنة السطحية بين الحالتين اللبنانية والفرنسية، يعود إصرار زيمور على اتخاذ لبنان مثالاً دون غيره من بلدان العالم، بجانب منه إلى العلاقات المتينة التي تربط بين البلدين. فالحدث اللبناني يحظى بتغطية إعلامية لافتة وبمتابعة الشارع الفرنسي، ما يسهل على زيمور تسويق برنامجه وهو المتمكن من قواعد اللغة الإعلامية والمدرك لأهمية إيصال الفكرة بأسرع وأبسط الوسائل.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها