الطرف الاول المؤيد لقاووق، لم يقبل رأياً ناقداً لقصر نظر قاووق وكاتب استكشاته، وعجلة الاخيرين في الحكم على جماعة بأمّها وأبيها.. أما الطرف المدافع عنه، فلم يقبل رأياً يدين ردّ الفعل على جَلد "البيئة"، ووصم المدافعين عنه بالـ"داعشية". ألغى الطرفان المنطقة الوسطى بين فتح نقاش حول قاووق نفسه، أو المكوّن الذي يتحدر منه ويتحدث عنه، ويمثل منطقة واسعة، تمتد من النخب الشيعية، ولا تنتهي بمقاومتها لمظاهر نافرة، ودفعت ثمن رفضها لتلك المظاهر، لدى الطرفين على حدّ سواء.
والنقاش الهادئ حول اشتباك الطرفين، يستدعي استعراض تجارب كوميدية ظهرت خلال الاعوام الثلاثة الماضية، وتمثل في مضمونها البيئة الشيعية. شخصيات طريفة، خفيفة الظل، تسرد وقائع شخصية تكشف عن نمط تفكير وسلوكيات جزء من المجتمع الشيعي.
كان الكوميدي عباس جعفر، أحدهم، كذلك أمل طالب وسواهما من الكوميديين. حصر جعفر وطالب النهفات بتجربة شخصية، عكست في الواقع نمط تفكير، وسلوكيات بيئة ينتميان اليها. حافظ الكوميديان على مسافة آمنة مع البيئة: لم يعمما ما يقولانه، ولو أنهما أشّرا الى البيئة البقاعية التي لا تقتصر على الشيعة فقط، لجهة تعاطي الحشيش وظهور السلاح بشكل اساسي، وقدماها كجزء من نمط حياة طبيعي، يستدعي النكتة بطريقة طريفة.
على النقيض، اختار قاووق شخصية رمزية أراد لها أن تتحدث باسم أهل الضاحية. شخصية لا تمثله كشخص، وهو العارف بأحوال هذه البيئة، وكان ممثلاً في أهم تجربة لتفكيك سلوكياتها ونمط تفكيرها حين أدى دور البطولة في مسرحية "شو ها" التي كتبها يحيى جابر.
الفارق بين الكاتبين (يحيى جابر ومحمد الدايخ) اللذين يؤدي قاووق نصوصهما في المسرح والشاشة، أن جابر يدرك الحد الفاصل بين التفكيك والتعميم. يسرد، وينتقد، من دون تنميط. يحصر نقده في اطار محدد، ويقدم النموذج الدخيل الى جانب نماذج أخرى مشرقة. لم يستثن ولم يسخر، على النقيض من الدايخ الذي ذهب الى الحد الأقصى، ربما طمعاً في قبول عرض برنامجه في تلفزيون "الجديد". فالسؤال الأساس هنا، هل كان "الجديد" ليقبل بعرض برنامجه لولا تسويقه بصورته الحالية؟
هذا السؤال لم يُسأل خلال الحلقة الاخيرة من برنامج "فوضى"، التي استضاف فيها جو معلوف، قاووق والدايخ والصحافية زينب حاوي والحقوقي جاد شحرور. وهو سؤال يُطرح في الشارع الشيعي، على ضوء العلاقة المتردية بين البيئة، وتلفزيون "الجديد" المتهم بالسّير ضمن حملة "عزل الشيعة" سياسياً واعلامياً واجتماعياً. يفاقم البرنامج هذا الشعور بتصوير الشيعة في منطقة نفوذهم في الضاحية، "طائفة مارقة"، "خارجة على القانون"، قادتها الخيارات السياسية الى الجريمة والاتجار بالمخدرات والعبثية والقتل والسرقة... وهم، بحسب معارضيهم، بالتالي، "كمية" تتسم بالـ"همجيّة"، في مقابل "نوعية" أخرى في الوطن، ما يعني أنهم لا يستحقون المشاركة في السلطة.
على أن هذا الشعور المتنامي بالعزلة و"الاقصاء" عن السلطة أو التأثير فيها، عائد الى متغيّرين. أولهما عجز الطائفة سياسياً عن التأثير في المشهد السياسي، وهو ما أكده
النائب جورج عقيص في مداخلة تلفزيونية يوم الخميس، قال فيها ان "حزب الله" عاجز عن حكم البلد، وهو قادر فقط على التعطيل (ربطاً بحصة الشيعة في السلطة التنفيذية ضمن النظام القائم). وثانيهما ان الجمهور الشيعي نفسه،
ساهم في ترويج فرضية القوة واستعراض السلاح، عبر هتاف "شيعة شيعة"، والصور والفيديوهات التي شجعت الآخرين على بناء كل مقاربة اجتماعية متصلة بالبيئة الشيعية، استناداً الى صور يروّجها الشيعة أنفسهم.
بين "خطأ" الشيعية السياسية، و"خطيئة" تكريس هذه الصورة عن سكان الضاحية، يقف الشيعة الوسطيون بلا سند. هم أكثر المتضررين من استعراضات "حزب الله"، ومن نظرة معارضي الحزب الى الطائفة بشكل عام. ثمة "طحن" للنخب الشيعية، بين سِندان الاشتباكات السياسية والطائفية، ومِطرقة الاجندات الاعلامية و"سذاجة" الوصوليين وحساباتهم الضيقة.
وليس هناك أبلغ من واقع بلدة بريتال في شرق لبنان، حيث ساهم عشرة مطلوبين بالحد الاقصى، في تنميط منطقة طويلة وعريضة، ووسموها بالخروج على القانون. ينطبق المثل نفسه على الضاحية الجنوبية التي تئنّ من ظواهر مارقة، تفرض الخوّات وتروّج المخدرات، ولا تستجيب الدولة لنداءات مئات الآلاف لضبط الأمن فيها.
في دفاعه عن قاووق، قال معلوف إن عباس جعفر وسواه، "حبّبونا بالشيعة". ما قاله هو أكثر ما يفسّر الصورة النمطية عن الطائفة لدى الشريك الآخر في الوطن. صورة عاشوراء الحزينة، أقصيت منها صورة الآلاف الذين يهتفون وراء المغنين في الحانات والعلب الليلية.. وصورة تجهّم النائب محمد رعد، أقصيت منها صورة نكتة الرئيس نبيه بري... والأسوأ هي الدعوة التي وجهتها زينب حاوي إلى معلوف لزيارة الضاحية، وكأنها منطقة معزولة ومقفلة. تتحمل الشيعية السياسية مسؤولية تغيير هذه الصورة في نفوس سكان الضاحية أولاً. وبعد ذلك، لكل نقاش... تفسير.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها