الميزة ليست في مضمونها بقدر التوقيت الذي نشرت فيه، أي قبل نحو شهرين من انتخابات البرلمان الأوروبي حيث يُتوقع أن تحقق خلالها احزاب اليمين المتطرف، في أوروبا عامة وفرنسا خاصة، تقدماً على مستوى النتائج. من جانب آخر يأتي هذا الاستحقاق على إيقاع خروج بريطانيا من الاتحاد.
حدثان يخيّم عليهما طيف موسكو: فالعلاقة التي تجمع الأحزاب المذكورة بالكرملين ليست سراً، كما المساهمة الروسية في ترجيح كفة "البريكست" لا تزال محط تساؤل وجدل. يضاف إليهما "الرعب" الرسمي الأوروبي والفرنسي من انتشار الأخبار المضللة بتوجيه من الكرملين للتأثير على مسار الانتخابات.
من على صفحات هذه الجريدة، الأقرب في خطها التحريري إلى وسط اليسار، حمل التحقيق الأول عنوان "
فلاديمير بوتين ... عرّاب اليمين المتطرف الأوروبي" فتطرق إلى طبيعة العلاقة والمصالح المتبادلة التي تربط روسيا بهذه الأحزاب المعادية للشراكة الأوروبية. والملفت هو المساحة المخصصة لهذا التحقيق، حيث بلغت الضعف مقارنة بالتحقيقات الأربعة الأخرى، ما يعزز فرضية التوقيت المتعمد للنشر.
إذا ما رسمنا خريطة لهذه السلسلة، يتضح أن الهدف منها الاشارة إلى الترابط بين صعود اليمين المتطرف وزيادة نفوذ. كما لا تتوانى روسيا عن اللجوء إلى أساليب "ملتوية" لهذه الغاية، أساليب تمس الأفراد في حياتهم اليومية لا سيما عندما تناول التحقيق الثاني كيف أدت القرصنة الإلكترونية إلى انقطاع التيار الكهربائي عن آلاف المنازل غرب أوكرانيا أواخر العام 2015. بمعنى آخر ليس هناك ما يردع روسيا عن اتباع نفس الأسلوب مع دول الاتحاد الأوروبي.
الرسالة واضحة للناخب الفرنسي الذي تشكل بلاده رأس حربة في الكباش مع موسكو، خاصة عقب الأزمة الأوكرانية العام 2014، وضم شبه جزيرة القرم: ما بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، أبعد من تناقص في المصالح والرؤية، هو صراع بين نموذجين سياسيين وصعود اليمين المتطرف الذي يرجح كفة النموذج الروسي إذ تم تقديمه في هذه التحقيقات كـ"دخيل" على الثقافة السياسية الأوروبية السائدة.
وانطلاقاً من اللحظة الراهنة التي نشرت فيها التحقيقات، أي الانتخابات الأوروبية، يمكن لنا طرح السؤال التالي: لماذا هذا التوتر والكباش في العلاقات الأوروبية - الروسية؟
قد تكون الإجابة عنه بالعودة إلى ما بعد انتهاء الحرب الباردة، حيث اعتبرت روسيا أن الدول الغربية تعاملت معها كدولة مهزومة من خلال السعي لبسط النفوذ العسكري - السياسي - الاقتصادي عبر توسيع مظلة حلف الشمال الأطلسي والشراكة الأوروبية.
لكن مع استفاقة "الدب الروسي" من سباته، بات يسعى لإعادة بسط نفوذه وما يفترضه ذلك من كبح جماح التمدد الأوروبي نحو مجاله الحيوي والجغرافي. فروسيا ترى بالتقارب بين دول مجاورة لها والاتحاد الأوروبي، كأوكرانيا، استهدافاً مباشراً لها: من مواءمة نظم السوق الداخلية مع التشريعات والمعايير الأوروبية وصولا إلى تنسيق محتمل على الصعد الديبلوماسية والأمنية والعسكرية وما يعنيه كل هذا من ابتعاد عن الفلك الروسي.
يضاف إلى ذلك ما تمت الإشارة إليه آنفاً عن الصراع بين نموذجين متناقضين: الأول ديموقراطي، وآخر ذو وجه تسلطي.
إلا أن ذلك لا يعني الطلاق بينهما. فرغم ارتفاع منسوب التوتر على خلفية الأزمة الأوكرانية، يعي كل طرف مدى ترابط مصالحه مع الآخر وحاجته له: روسيا توفر للاتحاد الأوروبي 30% من احتياجاته من الغاز والأسواق الأوروبية تستوعب 50% من الصادرات الروسية.
من هنا نفهم رغبة كلٍ منهما في التمدد نحو مناطق النفوذ المقابلة، أي أننا أمام نموذجين لا يعرف أي منهما حدوداً جغرافية واضحة المعالم.
تستغل روسيا عجز الاتحاد الأوروبي عن فرض نفسه كلاعب وازن على الساحة الدولية بفعل هيكليته المؤسساتية المعقدة وغياب التوافق الدائم بين الدول الأعضاء، خصوصاً على مستوى السياسة الخارجية. والأهم، استفادة الكرملين من التخلي الأميركي عن أوروبا وسحب المظلة عنها، وما تصريح ماكرون بضرورة إنشاء جيش أوروبي إلا إدراكاً منه لعدم امكانية الاعتماد على السند الأميركي.
ما تسعى إليه روسيا هو إضعاف الاتحاد الاوروبي من الداخل عبر دعم أطراف معادية للشراكة الأوربية، للجم اندفاعة الاتحاد الاوروبي نحو مزيد من التوسع والاندماج. من شأن ذلك أيضاً تعبيد الطريق أمام موسكو لتدعيم مصالحها مع كل دولة عضو على حدى وليس مع الاتحاد الأوروبي ككل ونموذجه.
من هنا تتضح خلفيات المصلحة الروسية من الدخول على خط انتخابات البرلمان الأوروبي للتأثير على مسارها من جهة، ومن جهة ثانية تحذير الصحيفة الفرنسية، غير المباشر، من مغبة الاقتراع الفرنسي لحلفاء موسكو المتمثلين أساساً في حزب التجمع الوطني. وما التخوف الأوروبي من انتشار الأخبار المضللة، إلا لأنها الوسيلة المحببة إلى قلب الكرملين كونها تلقى رواجاً لبساطتها أكثر من الأخبار ذات المصداقية، لكن صعبة التفكيك أحياناً.
عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، انطلق قطار الشراكة الأوروبية بهدف وأد أي نزاع أوروبي مستقبلي، شراكة أوصلت إلى الاتحاد الأوروبي بصيغته الحالية ليتحول إلى نموذج وعنوان للمصالحة والتقارب. لكن بعد 29 عاماً على انتهاء الحرب الباردة وعلى أبواب الاستحقاق الأوروبي المقبل، يبدو أن هذه الشراكة تحولت إلى عنوان للانقسام وللنزاع في القارة الأوروبية: من داخل الدول الأعضاء في الاتحاد وخارجه.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها