وتحولت المناسبة المحزنة، إلى استعراض أمام الكاميرات، لتبييض صورة حكومة النظام التي تعاني ضغوطاً متزايدة بسبب أزمات الغاز والكهرباء وانتشار الفقر والفساد. فتناقلت صفحات موالية، مقطع فيديو لرئيس الوزراء السوري عماد خميس، أمام المبنى المحترق، وهو يتظاهر بالاهتمام، بالإضافة إلى شخصيات أخرى مثل مدير كهرباء دمشق، باسل عمر، الذي ظهر "بالصدفة" في بث مباشر لصفحة "يوميات قذيفة هاون" من مكان الحريق.
ولم يكن ظهور تلك الشخصيات رفيعة المستوى، لإظهار التعاطف مع العائلة المنكوبة، أو الإشراف على التحقيق. ولا لتقمص شخصية المحقق كونان في مكان الجريمة، والذي يشكل نمطاً لمسؤولي النظام في مقاطع الفيديو المشابهة، إثر تفجير ما أو للترويج لمكافحة الفساد، على غرار وزير الداخلية السابق محمد الشعار في حلب. بل كان القصد، القول بحزم أن الحكومة أشرفت على التحقيقات بالحديث مع شهود العيان، للوصول إلى نتيجة بأن المسؤولية لا تقع إلا على الأهل والمواطنين الذين يلجأون لخيارات سيئة للتدفئة، مثل "الدفايات الكهربائية" والتأكيد على أن فوج الإطفاء وصل إلى مكان الحريق في غضون 3 دقائق، رغم تأكيد التعليقات أن الحريق استمر أكثر من ساعة ونصف الساعة من دون تدخل أي جهة.
تلك اللقاءات التي صورت في صفحات واسعة الانتشار، مثل "دمشق الآن" و"يوميات قذيفة هاون"، امتدت نحو الإعلام الرسمي. فقامت قناة "الإخبارية السورية" بتغطية مباشرة من مكان الحريق في حي العمارة، وانتهكت كافة الأخلاقيات المتعارف عليها، بوضع الميكروفون أمام الأب المنهار إثر وفاة أبنائه السبعة، وطرح أسئلة عليه حول الأداء الحكومي والرسائل التي يريد إيصالها للمواطنين، حتى انهياره باكياً في نهاية المقطع المؤلم، بينما كان بقية أفراد العائلة والجيران يرددون عبارات الشكر والثناء لوزارة الداخلية والحكومة السورية على جهودها!
الانتقادات التي طاولت القناة زادت من حدة الغضب الشعبي في مناطق النظام، ما اضطر "الإخبارية" للاعتذار بالقول أن التغطية السابقة بكل ما حملته من انتهاكات لا أخلاقية، كانت خطاً فردياً، وأعلنت إيقاف المذيع والمحرر صفوان علي، لمدة شهر. وهي خطوة لم تنل كثيراً من الاستحسان كما يظهر في التعليقات في صفحة "الإخبارية" في "فايسبوك"، إذ أشار المعلقون إلى أن المشكلة لا تتعلق بمذيع أو مراسل، بل هي في صميم الإعلام السوري وتراكمات الخلل فيه منذ عقود.
يتزامن ذلك مع انتقادات شديدة تواجهها حكومة النظام، بسبب الملف الخدمي والاقتصادي، وسط أزمة محروقات وكهرباء وصفت في الإعلام الرسمي بأنها غير مسبوقة في تاريخ البلاد. وبينما تنتشر صور طوابير الغاز المهينة في مواقع التواصل، يبرر النظام الأزمة بأنها نتيجة للحصار المفروض على البلاد التي "خرجت منتصرة بعد ثماني سنوات من الحرب الكونية". وبعد ارتفاع الأصوات الناقدة، وبينها أصوات فنانين وإعلاميين موالين، كان الرد الرسمي من طرف رئيس مجلس الشعب السوري حمودة الصباغ، ووزير التجارة الداخلية عاطف النداف، بأن الانتقادات جزء من حملة خارجية لتشويه صورة "الدولة السورية".
وباتت تغطية الحريق، وسيلة مباشرة للرد على كل الاتهامات السابقة، بالترويج لفكرة أن الأجهزة الحكومية والخدمية المختلفة تقوم بواجباتها على أتم وجه، وأن المشاكل الطارئة والمؤسفة، ليست إلا نتيجة عوامل خارجة عن سيطرة الحكومة، مثل خيارات المواطنين في التدفئة، ولا يتم الالتفات هنا لأسباب الحريق نفسها الناتجة عن سوء التغذية الكهربائية وتقلبها، ما أدى للمشكلة في المقام الأول.
ويجب القول أن بداية أزمة الغاز قبل أسابيع، شهدت حادثة مماثلة ساهمت في ارتفاع الغضب الشعبي ضد حكومة النظام، حيث ماتت طفلة سورية رضيعة من البرد في حلب، وتم إلقاء اللوم رسمياً وإعلامياً في القضية على أهلها لعدم توفيرهم التدفئة اللازمة لها، قبل القول أنها ماتت بسبب مرض ذات الرئة، وليس بسبب عدم وجود الكهرباء أو المحروقات للتدفئة في ظل المنخفض الجوي الذي ضرب البلاد حينها.
ويتكرر الخطاب نفسه اليوم، بإلقاء اللوم على أهل الأطفال السبعة! وبلغ الأمر ببعض المعلقين في "فايسبوك" القول أنه لا يمكن تصديق مقتل 7 أطفال دفعة واحدة بهذه الطريقة، وأن المسألة "بلا شك جزء من جهود خارجية دفعت الأموال للأهل كي يقتلوا أطفالهم من أجل لوم الحكومة"َ!
والحال أن هذا النوع من الاستغلال ليس جديداً على الإعلام الرسمي، بل هو جزء من "DNA" الإعلام السوري. يتذكر السوريون جيداً، مراسلة قناة "الدنيا" ميشلين عازار في تغطيتها لإحدى مجازر داريا، عندما حاولت أخذ تصريحات من ضحايا القصف، الذين لفظوا أنفاسهم الأخيرة على الهواء، ومن بينهم أطفال. إضافة إلى الانتهاكات التي تمارسها محطات النظام الرسمية وشبه الرسمية، في "التحقيق" مع "الإرهابيين"، أو ما قامت به المذيعة كنانة حويجة في سجن عدرا للنساء من انتهاكات مماثلة قبل سنوات.
المختلف بين تلك الحوادث وتغطية اليوم، أن السوريين الذين يتعرضون لهذه الانتهاكات، ليسوا معارضين/"إرهابيين"، كما لا توجد حالة حرب لخلق الوهم ببطولة إعلامية ما. بل هم المواطنون العاديون الذين كان الإعلام الرسمي يتشدق بحمايتهم وحقوقهم طوال السنوات الماضية. وعادوا اليوم، مع نهاية الحرب، إلى كونهم رعايا في "سوريا الأسد"، عليهم التصفيق لنيل الرضا.. وإلا فالعقاب.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها