بالأمس كان اليوم العالمي للقهوة، شرابي المفضل، حد الوله والولع والوجد والافتتان، شربتها بألف طريقة، وجبت معها حزام البن، من اليمن إلى البرازيل، وكولومبيا، وطرق طبخها، من المصريين إلى الأتراك، واليونانيين، واليابانيين فضلا عن الطليان، والأمريكان، زرت حوانيتها، وزواياها، تلك التي تنحت جزء من زوايا القلب، من مقاهي البدو، في بلادنا إلى ستاربكس في بلاد قطاع الطرق، ذكريات، وحكايات، وأشعار، وأساطير، ربما أجملها رائحة البن مختلطة بهواء البحر البارد في شتاء الإسكندرية، دفء البن البرازيلي، وهو اسم مكان لا صنف، حيث لا شيء سوى القهوة، ونديم يعرف قيمة الجلوس بها وإليها، ومطر يجعل للحالة معنى ونكهة..
كل ما سبق، لم يخطر ببالي حين قرأت عن اليوم العالمي للقهوة، إنما فرض نفسه علي وأنا أكتب الآن، أما البال والخاطر والذهن المدين للقهوة بالكثير فلم يستدع سوى ذاكرة التحريم، ذهنيته، وذهانه، فالقهوة، أصلا، حرام، أقول أصلا ولا أمزح، إن كنت ممن يعتقدون في كل قديم أصيل، وفي الأكثر قدما أكثر أصلا..
متصوف يمني، اسمه العيدروس، اكتشفها، أحبها، روجها، أهداها لطلابه، ساعدته على السهر فسهر على تحبيبها لأهل الطريق، ومن اليمن إلى مكة، اسطنبول، القاهرة، الجميع رفضها، وأفتى المشايخ بتحريمها، لنفس الأسباب التي عشقها من أجلها العيدروس، الذهن المتقد، الصافي، والسهر للقراءة والذكر والعبادة، مجرد الاقتراب من "العقل" كان سببا للتحريم، وقياس القهوة على الخمر، حتى لو كان الخمر يذهب بالعقل والبن يأتي به، لا فرق لدى الفقيه!
ثمة سبب آخر وجدته في نقولات كثيرة عن كتب ورسائل ومخطوطات في تحريم القهوة، وهو التحريم بالشبه، فإسم القهوة، يعني في أحد معانيه الخمر، وما داموا قد سموها باسم من أسماء الخمر فهي خمر، تذكرت وأنا أقرأ هذا كوب الويسكي الذي يقدمه لك أصحاب المطاعم الشعبية في القاهرة، بجوار الكباب أو الممبار ولحمة الرأس، وما شاكلها من أطعمة أهل الجنة القاهرية ونعيمها المقيم، وهي عبارة عن ماء سلطة حريف، حراق، مشطشط، يتبارى أصحاب المطاعم المختلفة في طبخه بطرق مختلفة، ليصير علامة على مستوى الطاهي، ويسمونه جميعا ويسكي، لو أدركه المشايخ لحرموه، ومن يدري لعلهم حاولوا لولا أن أدركهم رفاعي أو البرنس بما لديهما، فخرّوا ركعا وسجودا!
في مصر تسبب تحريم القهوة في مصيبة، شهدتها أروقة حي الأزهر والحسين، في القرن الثامن عشر، تجرد فَقِيه شافعي لتحريمها، فهاجم حماة الدين والفضيلة أوكار الفسق والرذيلة التي سُميت في ما بعد بقهاوي وسط البلد، حطموها فوق رأس من يخشى عليهم الكفر، أولئك الذين يتعاطون القهوة والعياذ بالله، وقتلوا أحدهم، وهو ما رد عليه أجدادنا من عشاق القهوة، في إصرار واضح على المعصية، بسرادق عزاء لثلاثة أيام لا يقدم فيه غير القهوة، الأمر نفسه تكرر في مكة ولكن دون قتلى، ومثله في عاصمة الخلافة العثمانية، إغلاق للمقاهي وتعقب للشاربين، وحماية للبلاد والعباد من خطر القهوة المحرمة لأنها (...) .. لأنها (أي حاجة)، لا يهم، المهم أنها حرام .... أصلا!
قرنان من الزمان، ٢٠٠ سنة، والقهوة محرمة، بمراسيم سلطانية، وفتاوى شرعية، وتجريم مجتمعي قائم على رأي الشرع، وثمة من يناضل ليثبت العكس وينتزع حقه في الشرب، وثمة من يعارضه باسم الدين، تخيلت في اليوم العالمي للساحرة السمراء، أن أحدهم خاصم صاحبه في البن، وناقشه، وجادله بأقوال أهل العلم، من الإنس والجن، بل وبأحاديث النبي التي اخترعها الفقهاء ليلجموا بها ألسنة المتحذلقين الذين يطلبون الدليل على التحريم، ولا يكفيهم فتاوى المتخصصين من أهل الفن، ومنها قولهم أن النبي - حاشاه - قال: "من شرب القهوة يحشر يوم القيامة ووجهه أسود من أسافل أوانيها"، النبي الذي لم ير القهوة في حياته قال ذلك، صدق أولا تصدق فتصبح كافرا أو منكرا للسنة، (على طول)، تخيلت أن أحدهم وقف في زملائه الشاربين الشاردين المنحلين خطيبا ليخبرهم أن من أراد أن يشرب فليشرب ولكن بعيدا عن الإسلام، لا تحلوا ما حرم (الله) لتبرروا لأنفسكم، تخيلت مشاعر المساكين الذين عاشوا في هذا الزمن وهم يسألون: لماذا؟ فلا يجدون سوى التجريم للسؤال وأصحابه، وربما يدفعهم الموج العالي إلى التشكك في أنفسهم وعقولهم وقلوبهم، والتأثم من شرب القهوة، والماء العذب، لو لزم أمر الفقيه، والتوبة، إن لم يكن اقتناعاً فتورعاً، ولنأخذ بالأحوط، فالمزاج العالي لن ينفعنا حين يعذبنا الله لأننا شربنا .... قهوة!
الشاي بدوره وجد من يحرمه في بعض الأقطار، لمجرد كونه منبها، ولكن الرأي لم ينتشر، الطماطم حرموها في الشام بسبب لونها، الأحمر أقلقهم، ولهم كل الحق، الأحمر مقلق فعلا، سموها مؤخرة الشيطان، الدراجات حرموها في السعودية، ونسبوها بدورها لإبليس، ومثلها التليفونات في أول أمرها، كل هذا تاريخ قرأناه، ولم نشهده، أما ما شهدته بنفسي في مصر، فهو تحريم الانترنت في بداياته، وتسميته على المنبر بالشيطان نت، والشات، وغرف المحادثات، كما شهد جيلنا تحريم السلفيين للتلفزيون إلى أن ظهروا عليه فصار حلالا بلالا، وتحريمهم للصور إلى أن علقوا صورهم في الشوارع للدعاية الانتخابية، وتحريمهم للديموقراطية إلى أن صارت سبيلهم للوصول إلى البرلمان، وتحريمهم للبرلمان إلى أن صاروا نجومه وأغلبيته وأذنوا فيه للصلاة، وتحريمهم مشاركة المرأة إلى أن رشحوا زوجاتهم، والشيء لزوم الشيء...
في حياتنا اليومية ألف قهوة محرمة، محرمات بالجملة، بالطن، لا نعرف لها سببا، ولا دليلا، سوى أحاديث مكذوبة، وأقوال وآراء متخلفة عقليا، ومزاج شعبوي، ريفي، قطيعي، أكل عليه الدهر وشرب، لكنها محرمة، وتحريمها مستقر، ومجرد مناقشتها قد تفضي بصاحبها إلى مصير صاحبنا فاسق القرن الثامن عشر الذي شرب القهوة فمات!
ترى، ما الذي يحمله الغد البعيد من مباحات، هي محرمات اليوم، وإلى أي مدى سوف يستمتع أحفادنا بحكايات عن العادي والممكن والطبيعي والإنساني، الذي كان محرما في عهد أجدادهم السذج، المناكيد، ثم عاد إلى أصله بفعل الزمن، أو المصالح، أو مزاج الحاكم، أو من باب التغيير، أو دون سبب واضح، ارتفع عنه التحريم، والسلام؟ ..
في اليوم العالمي للقهوة، اشربوا، وانبسطوا، وتخيلوا!، فالخيال، إلى الآن، حلال! والله أعلم.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها