صحيفة "الثورة" السورية بخطابها البعثي الخشبي المعهود، ارتأت التصويب على ما سمّته "أساطير النفاق الإعلامي". فنشرت، السبت، تقريراً بعنوان
"حلب في عين العاصفة الإعلامية، تُمزّق مصداقية الصحافة الغربية وتُسقط بحقيقة نصرها امبراطوريات النفط الإعلامية"، مدرجةً كل ما يُقال ويذاع ويُنشر من دلائل حول ارتكابات الجيش السوري وحلفائه بحق المدنيين، في سياق "تشويه الحقائق" و"التضليل المتعمد" لما يجري من "أحداث دموية كان للغرب الاستعماري وواشنطن اليد الطولى في افتعالها"، على حد زعم الصحيفة.
على أن ما قدمته صحيفة النظام بخطابها المكرور وإدعاءاتها المعتادة بقولها إنّ "أقنعة الإعلام المتآمر على سوريا تسقط"، ما هو سوى اختزال لحملة إعلامية متكاملة، تنشط أبواقها مؤخراً من منابر الإعلام الممانع والمنصات الاجتماعية التابعة والمؤيدة له، حيث تقوم على تنحية وقائع الحدث وصورته الشاملة جانباً، وتوجّه طاقاتها نحو اقتناص أخطاء بعض المتحمسين الذين قاموا بالنقل، من دون تدقيق، عن صفحات نشرت وتداولت صوراً مفبركة للحدث الأخير، لتقوم بعزله ومن ثم تعميمه وتقديمه على أنه الجانب الأوحد الواهي الذي تستند عليه الرواية الإعلامية للمعارضة السورية ووسائل الإعلام الغربية في تغطية أحداث حلب، ضاربة عرض الحائط بكل الشهادات الحيّة والصور الصادرة من قلب الحدث، المرفقة بعشرات التقارير التي نشرتها وسائل إعلام ومؤسسات حقوقية ومدنية تتمتع بمصداقية عالية على الصعيد الدولي، معتبرة ذلك الدليل الدامغ على كذب "الدعاية الغربية في تغطية أحداث حلب" وعن كيفية "استغلال الأطفال في الدعاية ضد النظام الروسي وحلفائه".
ما كان لافتاً في هذا السياق أن وسائل إعلام النظام السوري، وحلفائه، اختارت ركوب موجة الاستدلال بمواقف وآراء صحافيين غربيين منحازين لسياستها، من خلال خطة ذات شقّين، تنطلق في مسعاها الأول بهدف تكريس مزاعمهم على أنها حقيقة لا تقبل الشك، ومن ثم البناء على أقوالهم وآرائهم باعتبارهم مرجعية متعددة تنتشر في أكثر من وسيلة إعلامية، لتعمد إلى الاستناد إلى تقاريرهم بصفتهم شهود "الحق" و"الحياد" و"المصداقية".
الاستشهاد الانتقائي كان على رأسه
ما قالته الصحافية الكندية، إيفا بارتليت، التي كانت متواجدة في حلب برفقة قوات النظام السوري، والتي وقفت على منبر القاعة المخصصة للصحافيين في الأمم المتحدة، إثر خروجها من سوريا لتقول "إن كل ما يتم تداوله في الإعلام الغربي عن مجازر وانتهاكات لحقوق الإنسان من قبل النظام السوري في حلب، لا يعدو الكذب والتضليل، ولا يوجد ما يؤيده على أرض الواقع في حلب"، لتعود
وتؤكدّ في حوار تلفزيوني مع قناة "روسيا اليوم": "إن موافقتي مع ما ينقله الإعلام الروسي عما يجري من وقائع في حلب لا يندرج تحت بند الانحياز، إنما نحن نتفق على الرواية الواقعية للأحداث، بحسب مشاهدتنا المشتركة".
الاستشهاد الثاني يأتي من صفحات صحيفة "اندبندنت" البريطانية، لمالكها الملياردير الروسي الكسندر ليبيديف، الذي يدين بالولاء للرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسياسته في سوريا، فدأب على الحث لضرب صورة الثورة السورية وأركان معارضة النظام، ما جعل صحيفته مرجعاً معتمداً عند معظم وسائل إعلام الممانعة، خصوصاً مقالات الصحافيين روبرت فيسك وباتريك كوكبيرن، وهما من الكتّاب المعروفين بنشرهم كل ما من شأنه تلميع صورة النظام السوري والترويج لسياسة حلفائه، وفي الوقت نفسه يتمتعون بصيت "الخبراء في شؤون الشرق الأوسط".
كوكبيرن الذي كان قد
تساءل مشككاً في مقال استباقي له، نُشر قبل أيام من الهجوم العسكري الأخير على شرق حلب، عن "كيف يمكن للمؤسسات الإعلامية التي تخشى إرسال صحافييها إلى المناطق التي يسيطر عليها أكثر المسلحين اعتدالاً خوفاً من أن يتعرضوا للخطف والقتل، أن تصدّق ما يردها من تلك المناطق"، معتبراً أنه "لا مفر أمام المعارضة التي تخشى على وجودها من إنتاج او السماح بإنتاج معلومات في إطار البروباعندا الخاصة بها"، مشيراً إلى أن الخطأ لا يكمن فيها، بل في وسائل الإعلام التي تسمح بأن تتم تغذيتها بأخبار مشكوك فيها ومن جانب واحد". لكن يبدو أن كوكبيرن أغفل بأنه لو استندنا إلى هذه القاعدة، أنه كان من الأَولى له أن يشكك في رواية أي إعلامي قد غطّى الأخبار الواردة من المناطق التي تقع تحت نفوذ النظام، الذي اشتهر بقمعه للصحافيين وعدم
سماحه بخروج أي معلومة لا تصبّ في مصلحته تحت طائلة الطرد والقمع والاعتقال وصولاً للتصفية الجسدية.
في السياق نفسه وضمن مقالٍ بعنوان
"الحقيقة الأخرى لرواية حلب"، فإن روبرت فيسك، الذي توّج مسيرته المهنية بتحوله إلى صحافي مزروع لصالح نظام الأسد إثر
تقريره الشهير من داريا العام 2012، حذّر من الأخبار غير الدقيقة والمزيفة، التي برأيه لن يسلم منها حتى أهم الصحافيين الأجانب، الذين سيكون عليهم، وبحسب فيسك، أن يعيدوا كتابة روايتهم حول ما يجري في حلب، ويتحدثوا عن "الحقيقة الأخرى" للقصة. وطبعاً يعتبر فيسك أن الحقيقة الأخرى تكمن في شيطنة المعارضة ومن يساندها وكل من يقوم بنقل الصورة الحقيقية لوحشية بشار الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين في القتل والدمار والإبادة.
لكن رغم كل محاولات وسائل إعلام النظام والممانعة لحرف الحقيقة وحجب شمسها عما يجري في سوريا عموماً، وحلب خصوصاً، يبقى الواقع الذي لا لبس ولا باطل فيه متمثلاً في حجم الدمار والمجازر التي ألحقتها أسلحة النظام السوري وحلفائه بالمدن السورية، ما أدى إلى دفع الملايين من المهجرين إلى خارج مناطقهم داخل وخارج سوريا، مضافاً إلى مئات الآلاف من المحاصرين والمنكوبين والمشردين والمفقودين.
لكن ورغم استعصاء إنكار هذا الكم من الممارسات الإجرامية الماثلة للعيان، يبدو أن المنهجية الثابتة للنظام التي تعتمد على الاستمرار في الأكاذيب عند كل مفترق ومحطة والتي صارت معروفة الأساليب واجترار السبل وتشابهها، يأتي هذا التركيز والضخ الإعلامي الكبير للحديث عن الصور المفبركة والمزيفة المصحوبة بالتشكيك في مصادر المعلومات، ولا يعدو كونه اسطوانة مشروخة تكررها الآلة الإعلامية الأسدية ومَن يدور في فلكها، والتي لا بدّ أنها دفعت إلى اختلاق حسابات وهمية تحت شعارات تتبناها المعارضة، لتقوم من بعدها باتهام المعارضة بالتلفيق والكذب، مثلما حدث في قضية المخبر هسام هسام (في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري) وقرصنة تسجيلات عقاب صقر ومن ثم إعادة فبركتها واجتزائها وبثها، وكما حصل مع وليد المعلم في مؤتمره الصحافي الذي نشر فيه فيديوهات مما حصل في كترمايا والضنية اللبنانيتين ونسبها إلى المعارضة السورية، وصولاً إلى بشار الجعفري الذي عرض مؤخراً في مجلس الأمن صورة من العراق ونسبَها إلى حلب، والكثير غيرها. ما يشي بوضوح عن الجهة التي تحترف التزوير وقلب الحقائق في أداء إعلامي يأتي مكملاً للإجرام الذي يمارسه النظام على الأرض، والذي ينطلق من عقلية جرمية تحرّك الإعلام والدعاية ويكون منطلقها الكذب والتضليل.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها