ويبدو أن "الجمهورية" من خلال نشر هذا الرسم أعادت عقارب الساعة إلى الوراء حينما كان خطاب "الفلسطيني المجرم" و"الغريب الارهابي" سائداً في فترة الحرب الأهلية، إذ كان المُلام الأول عن تفجير الحرب بالنسبة للقوات المسيحية، ضمن جغرافيا ما كان يسمى المناطق الشرقية، والتي كانت تعتبر أن الفلسيطيني الغريب هو مسبب الحرب ومغذيها والمحرّض على تكريس الشرخ بين اللبنانيين حينذاك. وهو ما ظهّره زياد الرحباني بشكل دقيق في مشهد "الغريب والجرة" في مسرحيته "شي فاشل"، حين سخر من هذا الخطاب الذي كان متغلغلاً في عقيدة ومنطق الشارع المسيحي وقتها.
لا نعلم إن كان هذا الفكر كامناً في لاوعي "الجمهورية" أو صاحب الكاريكاتور أو الناشر، ما جعله يعبّر عنه بحركة أو "زلّة" مفاجئة، بل صادمة. وبما أن الصحيفة منذ انطلاقتها تعكس خطاب حزب "القوات اللبنانية" وتعتبر محسوبة عليه وتساند مواقفه وقراراته، فهذا ما جعل الكاريكاتير الذي نشرته الصحيفة اليوم مستغرباً ويمكن تشبيهه بالتغريد خارج سياسة "القوات"، التي يعتبر موقفها الحالي واضحاً من هذه المسألة، بعدما قامت بمراجعة تاريخية للحرب اللبنانية وفصولها، قامت بعدها بحركة تصالحية مع الأحزاب والمنظمات الفلسطينية المنضوية تحت لواء منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، حيث أعلنت "القوات" وقوفها إلى جانب الحقوق الفلسطينية ودعمها للسلطة الشرعية التي تمثلها، وذلك عقب سلسلة من المواقف التي اتخذتها الأخيرة والتي أعلنت فيها احترامها الكامل للقوانين اللبنانية واعتراضها على أي تحرّك خارج سياق الشرعية اللبنانية والتدخل في شؤون لبنان الداخلية.
الانطباع الأوّل الذي يوحي به الرسم هو التركيز على مسؤولية الدور الفلسطيني "الشرير" و"القاتل" كمسبب لانطلاقة الحرب الأهلية وتأثيراتها وذكرياتها بكل ما تحمله من أهوال وويلات ودمار. وقد يتساءل المرء هنا: لماذا لم يجسّد الكاريكاتور المليشيات اللبنانية المختلفة، والمسلحين اللبنانيين الذين دمروا ونهبوا وقتلوا وخطفوا؟ أليسوا شركاء في الحرب؟ ألم يكونوا بيادقها؟ وفي الجهة المقابلة من الرسم الكاريكاتوري، فيروس "كورونا" الذي اجتاح العالم، ومن ضمنه لبنان، والذي ربطت الصحيفة بينه وبين المقاتل الفلسطيني، في رسالة تحمل معنى أن الكوفية الفلسطينية التي تعتبر رمزاً للقضية الفلسطينية ونضالها، هي في نظر الصحيفة رمز إرهابي يختزل شرور الحرب اللبنانية، ويوحي بأن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان يشكلون الخطورة الوجودية نفسها التي يحملها وباء "كورونا" إذ يهدد حياة اللبنانيين وملايين البشر ويفتك بعشرات الآلاف منهم. وهو ما جعل المقارنة هنا تبدو وكأنها بين شرّين مطلقين يشكلان خطراً على اللبنانيين، ومن خلفهم العالم، ويمثلان عوامل ترهيبية مع أرجحية تأثير قوة الفيروس بوصفها السائدة والمهيمنة على أفكار البشر، في حين أن الأثر الفلسطيني خفت تأثيره وصار من الماضي.
ولعل نشر الكاريكاتور لا يجدر بالضرورة، وضعه في هذا السياق، إذ لم يسبقه أمر مماثل من قبل الصحيفة، ما يستدعي التعامل معه كفعل منفرد ومنعزل. لكنه رغم ذلك، يحمل رمزية مرفوضة رفضاً قاطعاً، تنضح بالكراهية والعنصرية وتقارب المسّ بالسلم الأهلي والانتظام العام، بما يمكن أن تشكّله من استفزاز للفلسطينيين في لبنان وخارجه بالمجّان. وهو مشابه لدبّوس ينكأ الجراح، ووخز في الذاكرة الأليمة. لذا، بدا من المستغرب أن تسمح "الجمهورية" بنشر هذا الرسم، الذي لا لزوم ولا مبرر لعرضه أو لتحمّل تبعاته، حيث كان من المفترض أن يكون قد اندثر مع الحرب ودُفن مع ذكرياتها الموجعة.
الرسم أثار غضباً واسعاً خصوصاً لدى الفلسطينيين، الذين اعتبره بعضهم "هجوماً على الرمزية"، كون "الملثم هو رمز المقاومة". كما أصدرت حركة "حماس" بياناً استنكرت فيه الربط بين صورة الفلسطيني في بداية الحرب الأهلية اللبنانية وفيروس "كورونا".
واعتبر المكتب الإعلامي لـ"حماس" في لبنان أن الكاريكاتير "يؤجج المشاعر العنصرية، ويستحضر الحرب الأهلية، متجاوزاً إجماع الفلسطينيين واللبنانيين، على اختلاف انتماءاتهم السياسية، على ضرورة تجاوز تلك المرحلة الأليمة".
وجاء في البيان: "إننا في المكتب الإعلامي لحركة حماس نستغرب نشر هذا الكاريكاتير العنصري، في وقت يشهد تنسيقاً لبنانياً فلسطينياً عالي المستوى لدحر فيروس كورونا في لبنان، ومنع انتشاره"، معتبراً أنّ"البعض حاول أن يزيد الفيروس قبحاً وأذى، بأن يجعله قاتلاً للعلاقات اللبنانية الفلسطينية، وهو ما نرفضه كفلسطينيين ولبنانيين".
وإذ أكّد البيان على أنّ "هناك إرادة مشتركة ما بعد الحرب الأهلية لعدم العودة إلى تلك المرحلة السوداء"، أشار إلى أنّ "تجربة الحرب الأهلية قد أخذ الفلسطينيون واللبنانيون منها العبر، ومن هذه العبر نبذ كل كلام يستفز الغرائز، ويستدعي الكراهية كأحد أدوات الحرب. لذلك فإننا ندعو صحيفة الجمهورية إلى التراجع عما نُشر، لما يشكله من عنصرية، ويسببه من ضرر لمشاعر الفلسطينيين واللبنانيين على حد سواء".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها