كرة ثلج الأزمة المالية الحادة داخل الوسط الإعلامي المصري تدحرجت بسرعة خلال الأيام الماضية، لتضم المزيد من القنوات والصحف. التفسير ما زال تائهاً بين الأسباب المعلنة التي تُرجع الأزمة لتراجع سوق الإعلان، وبين أسباب سياسية طال زمن السكوت عنها.
العاملون يدفعون الثمن
أولى علامات المرض تظهر دائماً عند الحلقة الأضعف: أجور العاملين. أبرز المؤشرات الأخيرة كانت قرار مجموعة قنوات "سي بي سي" مطلع أبريل/نيسان الحالي بتخفيض أجور العاملين بنسب متفاوتة تصل إلى 25%. سعيدو الحظ هم من اقتصرت خسائرهم على ذلك، فقد قررت الشبكة فجأة فصل 140 من العاملين بمختلف الأقسام.
الأحداث نفسها، وقعت مطلع العام الجاري بقنوات أون تي في، التي استغنت عن حوالي 60 من العاملين أغلبهم بقناة "أون تي في لايف"، وتم تخفيض أجور العاملين بنسبة 5% للرواتب الأقل من 5000 جنيه (حوالي 660 دولار)، وبنسبة 10% للرواتب الأعلى، وتأخرت رواتب العاملين بنسب متفاوتة بين شهر إلى ثلاثة أشهر.
الوضع أسوأ في قنوات أصغر. ففي ديسمبر/كانون الأول الماضي، أضرب العاملون بشبكة "أوربيت" عن العمل بعد تأخر رواتبهم لأربعة أشهر وقاموا بمنع ظهور المذيع عمرو أديب في حلقة برنامجه "القاهرة اليوم"، وهو الحدث نفسه الذي وقع في مارس/آذار من العام نفسه وفي القناة ذاتها.
العاملون في قناة "التحرير" بدورهم، هددوا بالإضراب في الفترة نفسها من العام الماضي، لتأخر رواتبهم ثلاثة أشهر. وفي نهاية العام، تم بيع القناة وتغيير اسمها إلى "تين" Ten ، لكن ذلك لم ينهِ مشاكلها. فقد قام المذيع جمال عنايت، والمذيعة جيهان منصور، كلٌ على حدة، برفع قضية يطالب بها برواتب 10 أشهر لم تدفعها له القناة.
مجموعة قنوات "دريم" بدورها، ورغم أنها كانت أول من دخل السوق منذ نحو 12 عاماً، تربعت في بدايتها على القمة، تتصاعد أزمتها منذ أكثر من عام، ووصلت صعوبة الأوضاع إلى عدم الانتظام في دفع مستحقات أبرز نجوم القناة، وائل الإبراشي مذيع برنامج "العاشرة مساء"، وهو ما أدى لتهديده بالاستقالة.
قناة "الفراعين" دخلت الدوامة نفسها، وأعلن مدير القناة ومذيعها الرئيسي توفيق عكاشة في سبتمبر/ايلول الماضي أن العاملين لم يتقاضوا أجوراً منذ 3 أشهر، وأن على القناة دَيناً لمدينة الإنتاج الإعلامي بمليون جنيه، و160 ألف دولار أخرى لشركة القمر الصناعي "نايل سات".
ضيوف القنوات ايضاً أصبحوا عُرضة للتضييق المالي نفسه، يشمل ذلك أجور الفنانين والنجوم التي انخفضت، دون توفّر معلومات دقيقة عن الأرقام بحكم خضوعها للتفاوض، كما يشمل ذلك الضيوف ذوي المكافآت الرمزية التي تتراوح بين 500 إلى 1500 جنيه في الفقرة.
قطاع آخر غير مألوف شملته قائمة الضرر، وهم الفائزون بالمسابقات التلفزيونية. ففي يناير/كانون الثاني الماضي، قال اللواء عاطف يعقوب، رئيس جهاز حماية المستهلك، لوكالة أنباء الشرق الأوسط الحكومية أنه أحال 18 بلاغاً ضد قنوات "الحياة" إلى النيابة العامة، وأن البلاغات تلقاها من الفائزين في برامج "دايرة الحياة"، "لعبة الحياة"، و"المليونير" الذي كان يقدمه جورج قرداحي، حيث اتفقت معهم القناة على تسلم جوائزهم خلال 3 أشهر من إذاعة الحلقة ولم يحدث ذلك.
الصحف تواجه الشبح نفسه
الصحافة المطبوعة بدورها تكافح للنجاة من الغرق. منذ عام، يتكرر التأخر الحاد للرواتب في جريدة "الشروق"، أو يتم دفع الراتب على أقساط. وتنسحب الأزمة ضربت على جريدة "الوطن" التي تأخرت رواتب عامليها عن شهر مارس/آذار الماضي، وتم إبلاغ العاملين أن الرواتب قد لا يتم تسليمها قبل مطلع مايو/أيار المقبل.
في فبراير/شباط الماضي تم فصل 75 محرراً من موقع "دوت مصر" بشكل مفاجيء بسبب الأزمة المالية. أثناء الاجتماع بين الإدارة والمحررين بكى رئيس التحرير خالد البري، وغادر المكان.
وسيلة الهرب الأولى: تقليص النشاط
وفي مسعى لضغط النفقات، بدأت الشبكات بإلغاء أجزاء كبيرة من خططها. مثلاً قامت شبكة "سي بي سي" بإغلاق قناة CBC 2، وتم إلغاء العديد من برامجها وفي مقدمها برنامج حكومة منتصف الليل للمذيع أحمد العسيلي الذي انتقل إلى الراديو أخيراً.
ويتكرر ذلك مع إغلاق قنوات MBC مصر 2، المحور 2، المحور دراما، كما أوقفت شبكة المحور برنامج "باختصار" الذي كان يقدمه معتز عبدالفتاح، وبرنامج "آن الأوان" للإعلامية هالة سرحان.
وسيلة الهرب الثانية: تغيير النشاط
في أغسطس 2014 أصدرت شركة "ايبسوس" المتخصصة في أبحاث السوق دراسة تحليلة كشفت عن تراجع حاد في نسب مشاهدة برامج "التوك شو" السياسية بين يناير ويوليو 2014. على سبيل المثال تراجع برنامج "الحياة اليوم" من المركز 3 إلى 37، وتراجع "هنا العاصمة" من المركز 8 إلى 32، و"العاشرة مساء" من 13 إلى 57، و"آخر النهار" من المركز 45 إلى 72.
إدارات القنوات استجابت لتغير بوصلة الجماهير، التي تساوي بشكل مباشر حصيلة الإعلانات، فتم ضخ استثمارات في مجموعة من برامج المنوعات والكوميديا واكتشاف المواهب، مثل "ست الحسن" على "أون تي في"، و"الراقصة" على القاهرة والناس"، و "رقص النجوم" على "النهار"، و"مذيع العرب" على "الحياة"، و"عرض كبير" و"أبلة فاهيتا" و"صاحبة السعادة" على CBC. بل إن الإعلامية البارزة، منى الشاذلي، تركت تاريخها السياسي الحافل وراءها، وأصبحت تقدم برنامج "معكم" الذي يستضيف نجوم الفن.
وشهد الإعلام المصري ظاهرة غير مألوفة هي المسلسلات الحصرية التي تعرض للمرة الأولى في خارج الموسم الرمضاني. قناة "الحياة" تذيع مسلسلات "الشطرنج" و"من الجانى؟"، بينما تذيع "إم بي سي مصر" مسلسلات "ألوان الطيف" و"سلسال الدم 2" و"سرايا عابدين 2".
الإعلانات أولاً
التفسير المعلن دائماً هو أزمة سوق الإعلانات في مصر، فبعد 4 سنوات من الركود الاقتصادي، وانخفاض معدلات النمو والاستثمار، أصبحت كل الشركات ترصد للإعلان ميزانيات أقل.
موقع "إعلام.أورغ"، نقل عن عمرو قورة، المنتج الفني والخبير الإعلامي، حسابات تفصيلية لتقديره للميزانية اللازمة لأبرز 20 قناة مصرية، أفضت الى أن إجمالي ما تنفقه هذه القنوات سنوياً هو 3.5 مليار جنيه، بينما "الكعكة الإعلانية" كلها لا تزيد عن 2.5 مليار جنيه، وهو ما يعني وجود عجز مالي بمليار جنيه يتوزع على القنوات. ولا يخلو هذا الجانب من تفاصيل تخص سيطرة وكالتين أو ثلاث للإعلان فقط على السوق كله، بما يمنحها تحكماً في القنوات والرعاة، وأيضاً يجعل الشركة الواحدة تنافس نفسها أحياناً، على رأسها شركة "برومو ميديا" وتحالف "آد لاين".
التفسير السياسي: هل كانت حقاً فقاعة فارغة؟
"هوا محمد الأمين فقر؟"، يتساءل زميلي الذي تم فصله من قناة "سي بي سي" بدهشة. الأكيد أن رجال الأعمال من أصحاب المليارات، لم "يفقروا". محمد الأمين ونجيب ساويرس وأحمد بهجت والسيد البدوي وإبراهيم المعلم وأكمل قريطم، كلهم لم تنقص ثرواتهم، لكن لا أحد ينفق الملايين بلا مقابل.
في عصر مبارك، كان السوق محصوراً تقريباً في ثلاث فضائيات فقط، هي "المحور" و"دريم" و"أون تي في"، بالتالي كان ذلك عملاً مربحاً من الناحية المادية، وأيضاً كان نظام مبارك يتبع طريقة "نظام الفساد" وليس "فساد النظام". بمعنى أنه يمنح رجال الأعمال المرضيّ عنهم حماية كاملة من الملاحقة، ويتم منحهم فرصاً استثمارية خارقة الربحية، من قبيل تخصيص أراضٍ أو بيع لشركة حكومية. وبالتالي كان الإعلام يعود بأرباح سياسية على صاحبه، تتحول بدورها إلى أرباح مادية طائلة أهم بكثير من أموال الإعلانات.
بعد الثورة افتتحت عشرات القنوات الفضائية الجديدة، فتفتت سوق الإعلانات الذي تضاءل أصلاً، لكن ذلك لم يمنع من ضخ الملايين، مع العلم أنها خاسرة، وكان أصحابها يريدون تأمين مصالحهم، والكسب سياسياً من النظام القادم أياً كان. واليوم، بعد مرور أشهر على حكم الرئيس السيسي، بدا واضحاً لرجال الأعمال أنهم يواجهون نمطاً مختلفاً من الحكم. فالسيسي يطالبهم طيلة الوقت بالتبرع خصوصاً لصندوق "تحيا مصر"، وأبدى خيبة أمله من إقبال رجال الأعمال. وفي المقابل، لا يقدم السيسي أي مقابل لما يطلبه على الطريقة "المباركية". فلم تخصص الحكومة أراضي، أو توقع عقوداً كبرى، مع الشركات الموالية، بل على العكس، أبدى رجل الأعمال نجيب ساويرس استياءه من مزاحمة شركات الجيش للقطاعات التي تعمل بها الشركات المدنية، وعلى رأسها الانشاءات.
في 6 أبريل، كتب عماد حسين، رئيس تحرير "الشروق" المصرية، مقالاً بعنوان "فقاعة الفضائيات توشك على الإنفجار".
الدائرة المغلقة للحل
لم تلتفت إدارات القنوات إلى الدلالة السياسية لانصراف الناس عن متابعة برامج " التوك شو"، وهو ما يعني رسالة ضمنية من قطاع واسع يقول: "مللنا منكم، مللنا من تكرار الضيوف والكلام والهيستريا، مللنا من تضييق سقف الحريات وانخفاض وجود المعارضين، من النقاشات ذات الاتجاه الواحد".
إذن، يمكن نظرياً عكس الدائرة بتقديم إعلام مهني ومتنوع، يناقش بشكل جاد قضايا المواطنين وقضايا الدولة. من غير المنطقي أن يستضيف المذيع ضيفان كلاهما مؤيد لحرب اليمن، أو كلاهما يقول قصائد الشعر في المؤتمر الاقتصادي! العائق المالي لن يكون المشكلة، فالجميع يذكر بعد الثورة حين قال بلال فضل ويسري فودة أنهم سيدشنون حملة للاكتتاب العام لتمويل قناة "الشعب يريد". في ما بعد، قال لي أحد المشاركين في المشروع الفقيد أن ما فهموه بعد تلال من الإجراءات الحكومية والتسويف والمماطلة أنه لا قناة تلفزيون يمكن أن تُفتح على "نايل سات" من دون إذن "الجهات السيادية"، وينطبق ذلك على الراديو "إف إم".
في المحصلة، وكما جرت العادة، السياسة سبب المشكلة، والسياسة تمسك مفاتيح الحل.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها