من الصعب انتشال اللغة من تحت الركام. اللغة المليئة بالغبار، تقف عاجزة أمام أشلاء كل شيء: البشر والمباني والحكايات. وحده صوت محمود درويش العائد من بيروت 1982 المحاصرة، يصرخ ببلاغة الجرح: "كم كنتَ وحدك يا ابن أمي..كم كنتَ وحدك!"، واليد الممدودة نحو سماء مدن غير حنونة: "يا الله جرّبناك، جرّبناك!". لا بد للذاكرة أن تتمرن على الاتساع كي تستطيع احتواء ما حدث ويحدث وسيحدث. لا وقت للحزن، لا وقت لشيء، ولا وقت للوقت.
أدخِل المعلومات في الحاسوب بطريقة أتوماتيكية، أقف عند كل حرف، أعدّ الثواني كي لا يأتيني الغد بخبر مفجع. أستمهل الحاضر خوفاً من الآتي. لستُ في بيروت. منذ وقت طويل لستُ في بيروت، ولم يبقَ من المدينة سوى بضعة مشاهد وأحاسيس. لكني لم أستطع سحب الجميع إلى أرض الخلاص كي نبكي معاً. لا وقت للبكاء، فما العمل؟ كيف أخرج من هذه المصيدة العقلية؟ عائلتي ما زالت هناك، متروكة للقدر تحت سماء الرعب اليومي الذي صار -لهَوله- مملاً. تعبنا من القلق والخوف.
أتصل بالجميع كي لا أقول شيئاً، أراقب إذا كانوا قد قرأوا الرسائل. تتكرر الكوابيس نفسها كل ليلة، لا بد أن عقلي يجهد كي يجاري ما يحصل هناك. جسدي يعيش الحرب حتى في البُعد. أقفز كلما سمعت صوت ارتطام. ينفجر الدم في عروقي كلما سمعت أخبار القصف. كم يبعد عن بيتنا؟ هل سيقصفون حيّنا أم الحيّ القريب؟ أقيس بالشبر بُعد الأماكن وقربها. أشرح لصديقتي الفرق بين بيروت الإدارية والضاحية، وتعقيد النسيج السكاني. يضربني صداع يوم الأربعاء العنيف...كيف للسماء أن تحمل الموت هكذا؟ صراخ العالقين يصمّ أذنيّ، هم الذين لا مسعفين يأتون لنجدتهم. الذين يموتون على مهل بينما أُدخل أنا أسماء الطلاب في الحاسوب.
مارغريت دوراس التي أعود إليها دوماً، تتحدث عن ألم الانتظار، عن تخيلاتها التي كادت تقتلها وهي تنتظر زوجها المعتقل في السجون الألمانية. تقول أنها كانت ترى كل ليلة الحفرة ذاتها، ثم تتخيل كيف يموت زوجها بداخلها. بقيت هذه الحفرة تكبر يوماً بعد يوم، حتى قضت على فكرة الانتظار. وحين عاد زوجها، كان الألم قد كبر ليغطي كل شيء؛ حبها وأملها واشتياقها، عاد غريباً عنها تماماً، وكأنه لم يعُد، وبقيت هي عالقة في حفرتها.
هذه حرب لم يعرف العالم بوحشيتها. حرب ذئاب الدم المنفلتة، الذكاء الاصطناعي المسلّط على دمنا. حرب الآلهة على ألعاب الأطفال. لم يبقَ في أفواه الضحايا ما يبصقون به على وجه هذا العالم. أتابع نقاشات المسجونين في الخارج مثلي. أتابع كلامهم الذي لا يقول شيئاً. كل منا عالقٌ في حفرته. اتهامات وعمالة وبطولات وشتائم. لا بد أن العالم لا يفقه لغتنا. لا بد أننا نقول أشياء لا يفهمها أحد، كحقوق الإنسان والشرائع والأعراف والأمم المتحدة، وكل الكلمات البذيئة الأخرى. لا قبب حديدية في سمائنا، ولا آلهة تحميها. سماؤنا عارية ومكشوفة.
لا يحق لي أن أقول شيئاً، لقد خرجت من الأتون حين كان الخروج ممكناً. لكني من هنا أنحني طويلاً لأبطال عاديين، يواصلون حياتهم بعناد، وآخرين يموتون كي لا يمحو التاريخ ذكرنا جميعاً. بصوتي المجهد حتى الإغماء، أتمتم: المجد لكم يا من أعرف ولا أعرف أسماءكم. من الصعب ان نرى الآن أي شيء غير الدم والدخان، على أمل أنها جولة فقط...
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها