هل كان متوقعاً ما حدث؟ أم أن تدحرج كرة النار كان أسرع مما اعتقدنا؟ لم يستفق أحد بعد من هول الصدمة رغم أنها لم تكن مفاجئة.
اتصلتُ البارحة بصديق عزيز عايَش حروب لبنان ونكبات العرب، كي اخفف وطأة الضياع، وحاولنا وضع إطار لغوي لما حدث ويحدث. حاولنا الحديث -فقط الحديث فاللغة ملاذ أخير- عن هذه الحرب الجديدة التي تضاف إلى سابقاتها من صولات وجولات عرفها هذا الوطن الصغير الجميل وسيئ الحظ! في لحظة، عادت البنت الجنوبية المقتولة برأسها المدلّى من سيارة الإسعاف، وأطفال مجزرة قانا، إلى الأنين المتواصل في رأسي. رجع أرق بيروت المرعب.
في لحظة، وفيما أمسح زجاج بيت أميركي في ضاحية صامتة، عاد الجرح حاراً جداً لأكتشف بأن ما عشته ليس مجرّد ذكريات تركتها في كيس بلاستيكي مغلق بإحكام بين أكياس البيت القديم. ما عشناه جميعاً من ماضٍ مؤلم، وحاولنا تجاهله، يتجدد الآن كأنه واقع لا فرار منه. وكل الخوف أن ندخل مجدداً كابوس الهزائم العربية الذي رفضناه كجيل، مُطلِقين على مَن قبلنا ألقاب جيل الانكسار، فنحن جيل الانتصار المدوّي الذي تفتّح وعيه على تحرير الجنوب في العام 2000، وآمن بأحلام التغيير، وصولاً إلى فورات الربيع العربي.
لا يمكن لهذا الحدث ان ينفصل عما نعيشه منذ 7 تشرين الأول الماضي. فجأة استيقظنا على محاولة تصفية كاملة للقضية الفلسطينية، مع ما يعنيه ذلك من قضاء على ذاكرة أجيال كاملة راكمت نضالات كثيرة. أن تسقط فلسطين، يعني أن يموت أبي وجيله مرةً أخرى، وأنا لم أحتمل موته مرة واحدة. أن تسقط فلسطين، يعني أن نموت كالخراف جميعاً، مذبوحين وبلا ذاكرة. نعم أنا بعيدة جغرافياً، لكن هل نستطيع أن نبتعد؟ يا لهول ما يريدون لنا مشاهدته! يا لحفلة الجنون المستمرة في تلك المنطقة الملتهبة من العالم.
لكن حربي اليوم هي ضد الوقوع في العبث الكامل. ضد إيمان مضاد قاتل بأن لا أمل ولا شفاء، وبأن التاريخ ليس سوى دورات عنف طاحنة مستمرة. كيف لا، وقد أرّخ جيلنا، كمَن قبله، حياته بالحروب: طفولة ما بعد الحرب الأهلية ومجازر إسرائيل في الجنوب، مراهقة حرب الخليج، شباب سقوط بغداد وحرب تموز 2006، ثم دومينو التغييرات التي عصفت بالمنطقة، وصولاً إلى انفجار الثورات التي لا بد من إعادة نظر وتقييم لها على ضوء ما حدث لاحقاً. نحن جيل يراد له أيضاً ان يتوب عن الحلم العتيد: التحرير. التحرير بشقّه الخارجي عبر هزيمة مشروع الاستعمار المستمر، والداخلي عبر فرض أنظمة تشبهنا. باختصار، نحن جيل يشبه ما قبله، وربما ما بعده.
قلت للصديق البارحة، ثمة لحظة إيمان استثنائية فريدة عرفناها وكبرنا على هديها، هي لحظة تحرير الجنوب العام 2000. لحظة مشرقة ومبهرة في تاريخ الهزائم، لا بد أن نعود إليها ونحن في ذروة الألم. لحظة اكتشفنا بأن هذا العدوّ يُهزم ويمرّغ أنفه بتراب الجنوب وينسحب مُغلقاً وراءه بوابة فاطمة. هذا الإغلاق كان رمزياً، كان إغلاقاً لعقود من الهزائم التي لا نريد العودة إليها. وبما أننا عشنا ذلك، لا بد لحسابات المنطق البارد أن تقول بأن هذا الدم الجديد لم يذهب هدراً. ليس لأننا غداً سندخل القدس، كما يتردد، فالطريق ما زالت طويلة، إنما لأننا رأينا يوماً انتصار الدم على السيف، بالتراكم والصبر والصمود الذي يأخذ أشكالاً كثيرة.
ليس الوقت وقت حساب، ليس وقت فتح ملفات داخلية. الوطن ينزف ولا نستطيع سوى الثبات والإيمان. إيمان آتٍ من عمق الجرح. من نهر دم أطفالٍ في الجنوب والبقاع والضاحية، يلاقي دم أطفال غزة المظلومين. سنتذكر أسماءهم واحداً وحداً، ونعددها غداً حين يقفل هذا العدو بابه مرة أخرى على عنصريته المجرمة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها