حين بَنينا منزلنا، تعمّدنا أن تكون نوافذه عريضة، تحديداً البحرية. لأجل هذه الإطلالة البحرية بالتحديد، اخترنا موقعه، رابية مطلّة على شاطئ البحر المتوسّط وساحله المخضوضر بما يحتفظ به من بقايا بساتين موز وحقول زيتون ومنتجعات مزيّنة بأشجار النخيل والغوافة. الإطلالة على البحر لطالما كانت ثمينة، سواء للإمبراطوريات الغابرة التي احتلّت المنطقة أو الشعوب التي استوطنتها.
في زمن بعيد كانت هذه البلاد غنيّة ومصدّرة للطاقة، أي "نفطية" بمعنى زماننا الحالي. تعاقب الغزاة على احتلالها لأجل ثروتها من الغابات والأشجار، فأخشابها كانت الوقود الأهمّ والمادّة الأولّية للأساطيل البحرية ذات المهامّ التوسّعية. أما نحن، فطمعنا في مشهد الزرقة والأفق البديع. هذه ثروة أيضاً، فأيّ بناء مطلّ على البحر أغلى ثمناً من بناء لصيق به غير مطلّ، كما الحال في الغرف الفندقية حول العالم.
المطبخ شرقيّ، يطلّ على الجبل، لأجل أن تدفع رياح البحر روائح الطبخ وأبخرته خارج البيت، والصالون مطلّ على البحر، والحديقة نسخة مطوّرة عن حدائق بيوت أهلنا، فسحة للجلوس والتسامر محاطة بشجر الزينة والزهور، وفسحة أخرى للأشجار المثمرة المتوسطية، مثل التين والعنب والعنّاب والتوت والقراصية والبرتقال بكلّ تدرجات أطعمته وألوانه. ثمّة ركن خاص لي، لأجلس وأكتب فيه، وآخر لابنتي هاوية الرسم، وآخر لابني عاشق كرة القدم. هذا ما تعبنا واغتربنا لأجله. لكنّنا انتبهنا فجأة، خلال التصعيد الحربي الأخير، أنّنا لم نبنِ ملجأ!
لم نفكّر في بناء ملجأ. لم نسمع عن آخرين فعلوا. اللبنانيون بكلّ تاريخهم غير المستقرّ، لا يبنون الملاجئ! والحجّة جاهزة. يتداول الأهل فكرة مفادها أنّ صواريخ العدو تقتلع المباني اقتلاعاً من تحت الأرض. لكن هذا ليس السبب الذي جعلنا لا نبني الملجأ، بل لأنّنا تجاهلنا الحرب عن سابق إصرار.
ثقة في أمان غادر
يوم غادرتُ لبنان للعمل في الخارج، أخبرتُ أهلي وأنا أودّعهم ألا يحزنوا لأنّي سأعود بعد سنتين، وبعد سنتين اتّبعتُ خطّة غربة خمسية. خمس سنوات ونعود، قلت هذه المرّة. وصلتنا أخبار توتّرات البلد الأمّ وكوارثه واضطراباته، لكنّها لم تُثننا عن بناء بيت فيه. لا يتحقّق الأمان النفسي لمغتربٍ منّا إلا ببناء بيت أو شرائه جاهزاً. أن تملك بيتاً يعني أنّك عائد، أنت تخبر نفسك قبل الآخرين. أنت تعد نفسك، التي على الأرجح لا تصدّقك. لكن، أن تبني ملجأ، فهذا يعني أنك لا تثق في الأمان، وبالتالي لا داعي للعودة. لهذا، ربما، أسقط عقلنا الفكرة.
الآن، تهتزّ الواجهة الزجاجية كلّما مرّت الطائرات الحربية. لا نجتمع في الشرفة البحرية لمراقبة الغروب. تأكل العصافير ثمار حديقتنا. ننشغل في التخطيط للاختباء في حال اتّسعت الحرب، ويتّضح بعد كلّ التفكير الذي بذلناه أنّ موقع البيت لا يصلح لأيٍّ منها، فهو في مكان مفتوح وخطر، وسيكون علينا مغادرته لنكون في وضع السلامة.
خرطوم
في طفولتي، حين احتدم القتال في البلدة، اختبأنا في بئر ماء فارغة. كلّ أمّ في الجوار، جلبت أطفالها بالبيجامات متأبطين وسائدهم وبضع فَرشات اسفنجية. بقي الرجال في الخارج لحراسة الحيّ، تتراوح أسلحتهم من سكاكين المطبخ إلى جفت الصيد. نحن الأطفال، كنّا مبتهجين ومتحمّسين. لعبنا الورق ولم نُطِع أوامر أمّهاتنا بالنوم. ثمّ دخلنا في نوبة ضحك حين أسرّ ولد لنا بأنّ أخاه الصغير يتبوّل لاإرادياً وهو نائم، فاقترحت فتاة واسعة الخيال أن نوصل سروال الصغير بخرطوم زراعي نسلّطه للخارج لئلا يتسرّب البول إلينا. ضحكت الأمّهات أيضاً ومنهن مَن دمعت عيناها فجأة. لم تكن دموع الضحك. لم نفهمها.
ثمّ قالت إحدى الأمّهات وهي مستلقية تحدّق في سقف البئر، إنّ المكان يشبه القبر. راحت تلهث بالفعل. تبعتها الأخريات. انقلبت أمزجة الأمّهات الأخريات، ورحن يغادرن الواحدة تلو الأخرى، كل واحدة منهن مع فريقها من الصغار الراضين بأيّ تفسير كاذب لما يجري. تكرّرت ليالينا المضطربة. لكنّنا اعتدنا عليها لاحقاً، مُحتمين بأكياس الرمل التي رصّها الآباء حول جدران الغرفة الأرضية حيث عشنا فترة الاشتباكات خلال حرب الجبل. بقي الملجأ مهجوراً.
بلاد الخطر
مضت تلك الليالي، ونجونا، وبقينا نضحك على اختراع الخرطوم حتى اليوم، وندمع بعدما فهمنا دموع أمّهاتنا. لكن ما يحيّرني، كيف أنّ أهلنا لم ينصحونا ببناء ملاجئ! كيف شجّعونا على العودة إلى البلاد؟! كيف أنّ أمّي حين زارت أخوتي في كندا وسويسرا، أصيبت بكآبةٍ لم تتوقّف معها دموعها واستعجلت العودة، كيف أنّنا نحن أيضاً استعجلنا العودة، ولم نرفض فقط النوم في الملجأ ونحن صغار، بل لم نبنِ واحداً حين كبرنا. نعرف أنّ أي بئر فارغة أو ملجأ لن يحمينا من الأسلحة الفتّاكة، ونعرف أنّ الخطر هو فكرة لصيقة بهذه البلاد. ليست فكرة فقط، بل الفكرة بـ"أل" التعريف. "الخطر" وكلمات أخرى يجب أن نعرّفها بوضوح. أمّا "الملجأ"، فيجب أن نؤسّسه ثمّ نبني عليه، ما دمنا نصرّ على ألا نشفى من لعنة السكن إلى جوار هذا البحر الجميل الغدّار.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها