الإثنين 2024/10/21

آخر تحديث: 15:33 (بيروت)

حقائب الفرار

الإثنين 2024/10/21
حقائب الفرار
لوحتان للفنانة اللبنانية ماجدة شعبان
increase حجم الخط decrease

مثل كلّ الأبناء الوارثين كنتُ مطمئنةً إلى ثروتي وضمانات مستقبلي. ليست ثروة من المال والذهب والعقارات، لكنّها لا تقلّ عنها أهمّية. الأمر المقلق فقط أنّني لم أكن أعرف قدرها، وما كان يمكنني ذلك حتّى يأتي الأوان بذاته، أوان فتح الوصيّة في حضور الورثة وتوزيع الحصص.

ورثت عن أسلافي غريزة الفرار من الخطر، تدبّر شؤون الانتقال من الحرب إلى الأمن، القرارات الحاسمة والمصيرية التي يجب اتّخاذها في الثواني الأخيرة الفاصلة بين النجاة والهلاك. كانت لي حصّة مجهولة، توجّب أن تقع الواقعة حتى أعرفها. الواقعة تلك، أي الحرب، هي بمثابة فتح وصيّة المورّث ليعرف الورَثة نصيب كلٍّ منهم.

عرفت أنّ الأوان اقترب منذ تفاقمت إحداثيات الحرب الدائرة، وراحت قواعد الاشتباك التي سادت لسنة تقريباً تتبدّل. حين صارت حياة أسرتي في خطر محدق، كان عليّ التحرّك بسرعة. الآن هي ساعة الحسم. سيعلن عقلي، مع جسدي وهرموناتي وعصبوناتي الدماغية، ما ورثه وكيف سيستثمر تلك الثروة. قبل أمّي وأبي اللذين اختارا في حرب الجبل أواسط ثمانينيات القرن الماضي أن يبقيا في المنزل، ويدعما جدران غرفة سفلية بأكياس الرمل، قبلهما كانت جدّتي قد فرّت مع أهلها في الحرب العالمية الثانية من لبنان إلى الأردن حيث استقبلهم أقارب لهم. لن أفهم قرار والد جدّتي بالرحيل، إلا بدافع تقليد غيره والفرار لأجل الفرار. قبله كان جدٌّ ما قد فرّ من المجاعة، لكنّه لم يكن حلّاً ناجعاً، فوالدة جدّي لأبي آثرت الصمود وسفر برلك لتجلب القمح لأسرتها، وقد عادت مرّة لتجد طفلتها ميتة في مهدها، وأختها (جدّتي) جالسة قربها لا تفرّق بين الموتى والنيام. ومن دون أمر إخلاء انتقلت خالة لي إلى قرية مجاورة، ومنها على أخرى، حاملة أطفالها وبضع لوازم للطبخ والغسيل.

بالفعل، كانت لديّ خطّتان للنجاة. لقد شغلت الخطط البديلة حياتي منذ تفتّح وعيي، وبذلت لأجلها الوقت والجهد والمال. وها هي لحظة التنفيذ قد أتت. لكنّ الأمر ليس كما نتوقّعه. نحن لا نكون أنفسنا الذين خططوا بهدوء وأمان نفسي وسلام. كان علينا ونحن نخطّط أن نتقمّص حالة التوتر والاضطراب التي سنصير عليها لحظة التنفيذ.

حقائب للمحظوظين
نكون محظوظين إن امتلكنا رفاهية حزم حقائبنا. غالبية من تهجّروا لم يحملوا معهم إلا الملابس التي كانوا يلبسونها والأحذية التي كانوا ينتعلونها. وبما أن الحقائب مفتوحة، والمطار وطريقه مفتوحان، ولدينا تذاكر السفر وجوازاته وتأشيراته، فلا حجّة لنا. هذا اختبار ليس بالهيّن، ماذا سنقرّر أن نأخذ معنا، أغراضنا التي نحبّها كثيراً؟ أم التي سنحتاج إليها كثيراً؟ والسؤال الأصعب: كم من الوقت سنغيب؟

يتوقّف الأمر على حِدْسنا ونسبة التفاؤل في دمنا وما نستنتجه من معلوماتنا وذكرياتنا ومرويات أسلافنا وتحكّمنا بعدم بثّ الخوف حولنا. نقول للصغار: "سنغيب لأسبوع أو اثنين. حتى تهدأ الحال. ضعوا في حقائبكم ما يناسب هذه الفترة".

هذه الملابس الجميلة التي نحبّها، هل لدينا مزاج لنرتديها؟ هل هي جميلة حقاً كما كنّا نعتقد؟ نستبعدها، نأخذ ألواناً حيادية، لا تقول شيئاً فاقعاً، لا الحزن ولا الفرح. نختار في النهاية لوازم تليق بفارّ من الحرب ومن أهله الباقين داخلها. ما الحاجة إلى مستحضرات العناية بالبشرة التي تعد بتأخير الشيخوخة والحفاظ على كولاجين الجلد، ونحن نترك أحبتنا لعناية القدر المريبة وغير الموثوقة؟ وها هي جرار الزيت والزيتون الطازجة قادمة من المعصرة للتوّ! ألن نتذوّقها حتى؟ للحظة نسأل: مَن المحظوظ حقّاً؟ الباقي ليستمتع بمواسم تكافح معه هنا؟ أم الفارّ ليستمتع بالأمان؟

الوقت يمضي، وإعلان إغلاق المطار أو قطع الطرق إليه قد يأتي في أي لحظة. علينا حزم حقائبنا. السكين التي لا نعرف الطهو إلّا بها، هل ثمة فارق إن تركناها أم جلبناها؟ ونحن حزانى، تُمحى الفوارق. هذه خسارة بسيطة أمام خساراتنا الأخرى الفادحة. الطنجرة التي تناسب وجباتنا لا تلتصق بها الأطعمة ولا تتجمع الدهون العنيدة أسفلها، الكوب المفضّل الذي لا تحلو لنا القهوة إلا فيه، المخدّة التي تأخذنا إلى النوم بهناءة... ماذا أيضاً ينتظر قرارنا في هذه اللحظة الحاسمة؟ هذا الشبّاك الذي يطلّ على البستان الساحليّ ويبثّ روائح زهر الليمون ربيعاً، والبستان نفسه، كيف لنا أن نحملهما في حقائبنا؟ بهو المنزل الذي يشعرنا بالراحة والأمان حين نلجه عائدين من الخارج، كيف يمكن أن نحزم البهو والغرف والشرفات؟ مع كلّ سؤال وكل لحظة تنهمر فيها القنابل والصواريخ ويموت أبرياء، وتأتي الإجابات باتّة.

لا وقت لهذا كله. نجمع ما يقع بين أيدينا ونرميه في الحقائب، لا فارق بين ما نحبّه وما نريده وما نحتاج إليه. لا نحتاج إلى شيء سوى أن يمضي هذا الوقت، هذه المسافة بين البيت والمطار، وأن تمضي أيام الحرب، أن تمضي شهورها أو سنواتها وعقودها. وحين تأتي أجيال جديدة ستعود إلى مدوّناتنا وتسخر من الحلول التي ابتدعناها، والوطن الذي توهمناه وجلبناهم إليه عنوةً وعناداً، وربما أملاً في تغيير مصيره.  


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها