في ذكرى غائمة التوقيت، واضحة المعالم في ذهني، ركضت إلى الشرفة في منزلنا الكائن في الضاحية الجنوبية لأرى طائراتٍ حربية على مستوى نظري إذا رفعته قليلاً. كنّا نقطن الطابق السابع في بنايةٍ يختلط فيها السكّان الشيعة والسنّة، لكني طبعاً لم أكن لأُعنى بأمرٍ كهذا. كانت السماء الزرقاء مزروعةً بالطائرات الحربية، وكان المشهد مرعباً: هذا النوع من الرعب الذي تبحلق فيه من دون أن تعرف لماذا. مشهدٌ كالألعاب الإلكترونية. طائراتٌ رماديةٌ يُفترض أنها تهدر، وتتساقط منها قذائف تحرق ما تحتها، فلا تصيب الطوابق العليا. وهناك على شرفةٍ عاليةٍ ما في مبنى ما، فتاةٌ تتساءل إن كانت الطائرات تراها، وإن كان الطيّار الإسرائيلي سيقصفها لمجرّد وجودها هناك، هي التي لم ترتكب ذنباً يُذكر. لا تسمع الفتاة سوى صوت أفكارها، ومنها ينفذ صوت الرعب إلى ذاكرتها. صوت الرعب هو صمتٌ تام في مشهدٍ يفترض ترافقه مع الهدير، وصدى يتردّد لأفكارٍ لا يمكن احتواؤها.
أعتقد أني خسرت من وقتها أيّ ارتباطٍ بيني وبين الألعاب الإلكترونية. توقّفت عن لعبها تماماً وصرت أكره كلّ ما يمتّ إلى الهدير بصِلة. من وقتها أيضاً، شقّت الطائرات الحربية، وطيّاروها القادرون على نسفي، طريقهم إلى أحلامي. صرت أحياناً أركض تحتها محاولةً تفادي صواريخها، فتلحق بي وأقضي الحلم وأنا أركض ونظري معلّقٌ في السماء. كان هذا قبل المسيّرات طبعاً. لا تؤثر التكنولوجيا كثيراً في حجم اضطرابات ما بعد الصدمات الكثيرة التي استبدّت بي وبكلّ لبناني على مدى السنوات، والتي دفعتنا، أنا وغيري ممن سنحت لهم الفرصة، إلى المغادرة. لكن من قال إن المغادرة تعالج الصدمات، والأهمّ، من قال إن المغادرة وحدها كفيلة بأن تغيّر شيئاً من الواقع المعيش؟
لا أعرف كم من الوقت مرّ منذ تلك الذكرى. عشرات السنين بلا شك. واليوم، الأحلام هي هي، والواقع أسوأ من الأحلام، والفتاة إياها عالقةٌ على شرفة الذكريات. لم تعد الفتاة نفسها في خطر، وإن وَجَب إقناعها بذلك. لكن المئات غيرها في مكانها، عالقاتٌ على الشرفات يحدّقن في عين الموت المغمضة من دون أن يرمِشن خوفاً من إيقاظه. هل للموت عينٌ يفتحها حين يستيقظ؟ هل للموت عين جنديّ إسرائيلي؟ هل لعين الموت عدسةٌ إسرائيلية؟
يومها، كانت أمي، وأبي وأختي، في المنزل. أما اليوم فمنزلنا خالٍ منّا. من المؤكّد أن الطائرات الحربية الإسرائيلية حلّقت فوق شرفتنا إياها، هذه المرة من دون طيّارين، قبل أن تستهدف مبانيَ مجاورةً لنا.
آلو بابا؟
اي حبيبتي، أنا بأمان، توقّفي عن متابعة الأخبار أرجوك.
آلو ماما؟
لا تُغلقي الخطّ يا ابنتي، لقد تعبتُ يا ماما.
تسقط كلماتهما في قعر قلبي. أتنبّه إلى أنني في يوم الذكرى تلك، لم أبالِ حتى بما يجول في خاطِرَيهما، أو بما إذا كان الخوف يسيطر عليهما. يثقلني الماضي فجأةً. يثقلني الحاضر. يثقلني الحلم. دويّ الغارات على التلفاز يهزّني فأرتعد. ما زال أمامي الكثير من تبلّد المشاعر لأتدرّب عليه قبل أن أتمكّن من العيش كإنسانٍ طبيعي، فيما عين الموت شاخصة إلى بلدي وأهلي وناسي، تسحب الأرواح، وتقتلع عيون الأحياء، وتستعمر أحلامهم.
يوم الذكرى تلك وفي أيامٍ كثيرةٍ لاحقة، تمنّيت أن أخرج من لبنان. واليوم أتمنى لو كانت العودة في وسعي، لا سيما العودة إلى يوم تلك الذكرى. ليتنا كلنا نعود إلى ذاك البيت، فهناك لم آبه سوى بخوفي. صوت أهلي يتسرّب إلى أحلامي ويطرد الطائرات الإسرائيلية منها. أخبار. لقد تعبت يا ماما. غاراتٌ عنيفة. أصوات انفجارات. فتاةٌ صغيرة بفستانٍ أحمر انتقلت إلى السماء. أطفالٌ بوجوه رائعة لم ينجوا من قصف الطائرات. تكنولوجيا فائقة الذكاء. أبنية سُوّيت بالأرض… صدماتٌ متتاليةٌ جديدة تُضاف إلى سابقاتها. هل تغيّر شيءٌ في البُعد؟ تحلّق طائراتٌ في سماء بلدة برايتون في أونتاريو، يتساقط المطر، يدوّي صوت الرعد، ترتعد أوصالي. لم يتغيّر شيء، سوى الحنين واتساع عين الموت.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها