الإثنين 2024/08/05

آخر تحديث: 15:31 (بيروت)

أخبرك أين أحتفظ بكل شيء...في حال مَوتي بالحرب

الإثنين 2024/08/05
أخبرك أين أحتفظ بكل شيء...في حال مَوتي بالحرب
لوحة بلا عنوان للفنان اللبناني السوري سمعان خوام
increase حجم الخط decrease
حين غادر صديقي عائداً إلى بيروت قبل أسبوع، بكيت كثيراً. قالت لي أختي إن الوداع بشعٌ دائماً، فلم أناقش. في الواقع، اجتاحني شعورٌ جارفٌ باتساع المسافات، وحزنت لأن العودة ليست من نصيبي هذه المرة، كما أنها لم تكن من نصيبي حين وصلت إلى لبنان في تشرين الأول الماضي، لأغادره مباشرةً عقب اندلاع "طوفان الأقصى". كانت تلك الزيارة الأولى إلى لبنان منذ هجرته إلى كندا، وما زلت أتفاداه من حينها.

كان قلبي محمّلاً بثقلٍ أصبحت أعرف دلالاته: المرحلة المقبلة صعبة، بعد مأساة مجدل شمس، وسيكون هناك المزيد والمزيد من الخوف. الاجتياح (1982)، يوم الحساب (1993)، عناقيد الغضب (1996)، حرب تمّوز (2006)، طوفان الأقصى (2023)... تسميات محورية في تاريخ الصراع اللبناني-الإسرائيلي، تطغى على الذاكرة، وتختلط هناك مع اغتيال رفيق الحريري وانفجار مرفأ بيروت، مؤكّدة بلا شكّ أن في انتظارنا المزيد من الخوف.

وصل صديقي إلى بيروت، وبعد أيام قليلة، اغتالت إسرائيل فؤاد شكر، الرجل الثاني في "حزب الله"، ثم اغتالت بعدها بقليل اسماعيل هنية في إيران. دقّ ناقوس اشتداد الخطر، أطلقته ذاكرة الصواريخ، وشرعتُ أنا في كتابة يومياتي. في فترات كهذه، على المرء كتابة يومياته. لا شيء مثلها يوثّق محننا ويحفظ تاريخنا. حين نفقد القدرة على التحكّم في الواقع من حولنا، علينا أن نحيي فنّ اليوميات:

أفكّر في أمي، وفي أبي (خطر لي أبي هذه المرة أولاً، لكن يبدو أني ملتزمة بخيارٍ حياتيٍّ يحتّم ذكر أمي أولاً – هو نوعٌ من مانيفستو نسويّ ببندٍ واحد لا شقيق له). خطر لي أبي أولاً هذه المرة لأنه قال لي اليوم: "أريدك أن تعرفي أين أحتفظ بكلّ شيء، في حال متُّ في هذه الحرب".

الحروب تلزمنا بتبادل المعلومات، بمناقشة الخيارات، وإن أعلنّا رفضنا للاحتمالات. أن تكون لبنانياً، أي أن تعرف أن الموت أقرب إلى الواقع منه إلى الاحتمالات. قد يصيب الموت الأحياء في لحظةٍ غير متوقّعة، لكن الأحياء في لبنان قد يأتيهم الموت في كلّ لحظة، فهو محدقٌ باستمرار لكننا تعلّمنا ملاعبته، والرقص حوله، بل الغناء حتى. لا نغنّي احتفاءً بالموت، بل احتفاءً بنجاتنا منه حتى الآن. نعلم جميعاً أنه قد يصيبنا في أي لحظة، لكننا نصرّ على أن نعيش، فنحتفل، لأننا استطعنا إلى الحياة سبيلاً.


ندّعي المرونة والقدرة على الصمود، ويدّعي بعضنا الانتماء إلى "حزب الحياة". هو تموضعٌ، جزء من مزيجٍ تسويقي لمنتجٍ هو الجنسية اللبنانية الرفيعة. اللبنانيون يدّعون أنهم يحبّون الحياة، ويكرهون الموت وأحزابه. "الشيعة ليسوا لبنانيين، إقرأي التاريخ"، يقول صديق قديم، "انتماؤهم ليس لبلدهم، هم لبنانيّون على الورق فقط يعيشون في بقعةٍ بناها الموارنة. لا تجمعهم ببلادهم لا حضارة ولا ثقافة ولا انتماء، بل مجرّد جغرافيا". أجيب وأرفض وأناقش بحميّة، ثم أصمت، أنا المتهمة بالانتماء إلى الخارج. ما الفائدة أساساً من نقاشٍ تدافع فيه عن حقّك في جنسيتك؟

لا شيء أكثر عبثيةٍ في نظري من انعدام كفاءة الحياة لدينا. نعرف كيف نراقص الموت، بكلّ تأكيدٍ، لكننا نجهل كيف نراقص الحياة. كنا نرقص في فقرا، في أوجّ حرب تمّوز، تماماً كما غنّينا مع "الشامي" في اليوم نفسه لاغتيال الحياة مِن قلبَي الطفلين أميرة وحسن في الضاحية. لكن، كي تراقص الحياة، عليك أن تعيش بكرامةٍ، وكي تعيش بكرامةٍ عليك أن تبني نظاماً فاعلاً، وهو ما فشلنا فيه كلياً.

أن تكون لبنانياً يعني أن تناقش مع أشقائك -المنفيين مثلك- ما الذي عليكم فعله في حالة فقدتُم أحبابكم في حرب آتية. يا له من بؤس!".
***

هذا نصٌّ كتبته أساساً بالإنكليزية وأعدت كتابته بالعربية. يبدو أني أبتعد أكثر، لكني ما زلت أقاوم، إذ لم يغب عني طبعاً أن نصّ اليوميات هذا، أتى خالياً من أيّ إشارةٍ إلى كوني خارج لبنان أساساً. تقمّصٌ عاطفي لا ينقص اكتماله سوى اللغة الأساسية التي كُتب بها. المسافات لا تُقاس بالأمتار، ولا بالأقدام، بل بالقلوب واللغات. اليوم، أبعدُ من لبنان مسافة قلبَين هما الأكثر اتساعاً لي في هذا العالم، قلبا أمي وأبي، ولغة ستظلّ دائماً أمّاً ثانية لي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها