السبت 2024/01/13

آخر تحديث: 16:32 (بيروت)

آليّة السندات الصفريّة: الصيغة الأساسيّة للمشروع

السبت 2024/01/13
آليّة السندات الصفريّة: الصيغة الأساسيّة للمشروع
تتحول الوديعة العالقة في المصارف الى استثمار متداول في الأسواق المالية العالمية في مؤسسة مصنفة "أ"
increase حجم الخط decrease

يوم الخميس الماضي، نشرت "المدن" مقالًا يتناول النقاشات التي تدور في أوساط نيابيّة مختلفة، حول فكرة اعتماد السندات الصفريّة للتعويض على أصحاب الودائع في المصارف اللبنانيّة، وتحديدًا تلك التي تتجاوز حاجز الـ 100 ألف دولار للمودع الواحد. في خلاصة الأمر، وجد المقال أنّ الفكرة كما يتم التداول بها في الأوساط النيابيّة، لا تمثّل سوى "حيلة لشطب الودائع"، إذا تم تحويل الودائع إلى إلتزام على الدولة عبر اصدار سندات صفرية، وإذا أصبحت الدولة مسؤولة عن تأمين استثمارات دوليّة لضمان السندات الصفريّة التي سيحملها المودعين. بهذه الصيغة: سنعود إلى فكرة تحميل الدولة خسائر القطاع المصرفي، من دون أن يكون هناك ما يضمن قدرة الدولة على تأمين الاستثمارات الدوليّة المطلوبة لضمان السندات الصفريّة، ومن دون أي ضمانة بخصوص نوعيّة الاستثمارات التي ستعوّض على المودعين.

غير أنّ الموضوعيّة والإنصاف في مقاربة الفكرة تقتضي الإشارة إلى أنّ "المدن" اطلعت من مصادر مواكبة لهذا المشروع على الصيغة الأساسيّة للمقترح، والتي تم التقدّم بها إلى مصرف لبنان في تشرين الثاني 2023. الصيغة الأساسيّة، التي يفترض أن يبني عليها مصرف لبنان المقترح إذا قرّر أخذه بعين الاعتبار، تختلف بشكل جذري عن المُداولات النيابيّة التي أشرنا إليها في العديد من تفاصيلها، وخصوصًا في ما يتعلّق بمسؤوليّة الدولة ومصدر التمويل ومخاطر الاستثمارات. بهذا الشكل، يختلف أثر الصيغة الأساسيّة على المال العام والمودعين وفرص التعافي، عن الصيغ الكارثيّة التي يتم التداول بها في الأوساط النيابيّة. بل يمكن القول، بعقلانيّة، أن الصيغة الأساسيّة لا تحمل في طيّاتها نفس المحاذير والمخاطر التي أشرنا إليها، والتي انطوت عليها المداولات النيابيّة الأخيرة.

في خلاصة الأمر، لا تمثّل الفكرة بحد ذاتها شرًا مستطيرًا بالنسبة للمودع أو دافع الضرائب، لكنّها لا تشكّل حلًا سحريًا بمعزل عن الصيغة المطروحة، أو بعيدًا عن سائر الإصلاحات الماليّة المطلوبة. تقييم الفكرة، سيعتمد على الصيغة الأخيرة التي سيتم اعتمادها، وعلى مصادر التمويل ومخاطر الاستثمار، وعلى مدى تكاملها مع الإطار الأوسع من الإصلاحات الماليّة والمصرفيّة.


الصيغة الأساسيّة: مصدر التمويل وشكل الاستثمار
وفقًا للصيغة الأساسيّة، يقترح المشروع أن يتم تخصيص مبلغ يتراوح ما بين 5 و6 مليار دولار، من أموال المصارف الخاصّة ومن توظيفاتها لدى مصرف لبنان للإكتتاب بسندات صفرية صادرة عن مؤسسات ودول مصنفة"أ". وقدرة المصارف على تأمين نصيبها من هذا المبلغ، يمكن أن تكون جزءًا من آليّة تصنيف المصارف اللبنانيّة، ما بين مصارف قادرة على الاستمرار، أو مصارف متعثّرة وفقًا لمقتضايات عمليّة إعادة الهيكلة. هذا التصنيف، لا علاقة له طبعًا بأصل مشروع السندات الصفريّة، بل يفترض أن يخضع لمندرجات مشروع قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي، الذي يتكامل بطبيعة الحال مع آليّة ردم الفجوة في الميزانيّات المصرفيّة.

في الصيغة المطروحة أساسًا، يراهن المشروع على استثمار المبلغ الذي سيتم تحصيله في سندات طويلة الأجل، على أن يتراكم الاستثمار مع عوائده لتحصيل مبلغ يصل إلى حدود الـ 30 أو 40 مليار دولار بعد 3 عقود من الزمن. وهذه السندات يفترض أن تندرج من ضمن الأدوات الماليّة المصنّفة "أ"، أي المصنّفة ضمن الاستثمارات المنخفضة المخاطر. وعلى هذا الأساس، يمكن للمشروع أن يصدر سندات صفريّة طويلة الأجل، لا تُنتج فوائدًا، لتسديد ودائع بقيمة تتراوح بين 30 أو 40 مليار دولار، بعد ثلاث عقود من الزمن.

بهذا الشكل، سيحمل المودع في بداية الاستثمار سندًا توازي قيمته –بحسب قيمة الاستثمارات الموجودة- 15% أو 16% من قيمة وديعته الأساسيّة، على أن ترتفع قيمة السند القابل للتداول إلى 100% من قيمة الوديعة بحلول نهاية مدّة الاستثمار، أي بعد 3 عقود.
وبحسب الطرح، يمكن للسندات أن تسدد كامل قيمة الوديعة خلال فترة أقرب بكثير، إذا ما انخفضت نسب الفوائد العالميّة خلال الفترة المقبلة. فانخفاض معدّلات الفوائد، يعني تلقائيًا ارتفاع قيمة الاستثمار في السندات، وهو ما يسرّع استعادة قيمة الوديعة الأساسيّة (أو القيمة الإسميّة للسندات الصفريّة). هكذا، وبحسب المشروع، تكون قد تحولت الوديعة العالقة في المصارف اللبنانية الى استثمار متداول في الأسواق المالية العالمية في مؤسسة مصنفة "أ"، ما يعطي ثقة عالية في تحصيل الإستثمار.

أخيرًا، لم يُطرح المشروع بوصفه حلًا سحريًا يكفل سداد الفجوة بمفرده، بعيدًا عن سائر الإجراءات التي يفترض أن تسهم في معالجة كتلة الخسائر، مثل تصنيف الودائع ما بين ودائع مشروعة وغير مشروعة، واستعادة فوائض الفوائد المرتفعة التي تم تسديدها في السنوات السابقة. كما لم يُطرح المشروع بوصفه آليّة لتحميل الدولة كتلة الخسائر المصرفيّة، وفقًا لآليّة صندوق استرداد الودائع، كما اعتقد بعض النوّاب الذي تداولوا المشروع أخيراً.


 العناصر الإيجابيّة في الصيغة الأساسيّة
باختصار، ثمّة عناصر إيجابيّة في الصيغة الأساسيّة للمشروع، وهو ما يختلف عن الصيغ التي تم تداولها نيابيًا. فالصيغة الأساسيّة لا تطرح تحويل الـ 30 أو 40 مليار دولار من الودائع إلى إلتزام على الدولة، على أن تتكفّل الدولة بتأمين الاستثمارات الدوليّة. بل على العكس تمامًا، يقترح المشروع تأمين الاستثمارات أولًا من أموال المصارف وتوظيفاتها لدى مصرف لبنان، على أن يتم طرح السندات بعدها لأصحاب الودائع التي تتخطّى حاجز الـ 100 ألف دولار. بهذا الشكل، لا يتحمّل المودع هنا مخاطر تعثّر الدولة اللبنانيّة، واحتمالات عدم تمكّنها من تأمين الاستثمارات الدوليّة. وبهذا الشكل أيضًا، لا تطرح الصيغة تحميل دافعي الضرائب كلفة تمويل المشروع، كما تطرح جمعيّة المصارف وبعض النوّاب الذين يدورون في فلكها.

وتؤكّد المصادر المواكبة للمشروع أن الفكرة متوافقة مع مبادئ ومعايير صندوق النقد، الحريص على لجم نسبة الدين السيادي للناتج المحلّي. كما يرى أنصار المشروع أن الطرح يساهم في إعادة هيكلة القطاع المصرفي بصيغة أكثر توافقًا مع الاقتصاد السياسي في لبنان، لكونه يلبّي معارضة المشرّعين لشطب الودائع، ويلبّي معارضة صندوق النقد –ومعايير العدالة- لاستخدام أصول الدولة في إعادة الهيكلة (والبدائل، بحسب المؤيّدين، تتراوح ما بين شطب نسبة من الودائع أو تحويلها إلى ديون على الدولة كما تطرح المصارف). وعلاوة على ذلك، يمكن للخطة أن تندرج ضمن الأهداف الاقتصاديّة الأوسع، مثل استقرار سعر الصرف وتوحيده، ومكافحة الاقتصاد النقدي. غير أنّ تنفيذ الطرح، سيتطلّب في الوقت عينه إعادة رسملة المصارف، لتمكينها من تمويل المشروع، وليندرج الطرح ضمن حل متكامل للأزمة المصرفيّة.

في الوقت نفسه، لا تطرح الصيغة الأساسيّة فكرة تأمين كلفة الاستثمار، ومن ثم ترك الباب مشرّعًا أمام تحميل المودع مخاطر مرتفعة على مدى العقود الثلاثة المقبلة. بل يحصر المشروع الاستثمارات المحتملة بأدوات الفئة "أ" المنخفضة المخاطر، وهو ما يجعل السندات الصفريّة قابلة للتداول في الأسواق الدوليّة، بوصفها سندات آمنة على المدى البعيد. ومن المعلوم أن نسب الفوائد العالميّة باتت في ذروتها اليوم، وهو ما سيعني ارتفاع قيمة الاستثمارات بشكل سريع خلال السنوات المقبلة، عند دخول المصارف المركزية الأجنبيّة في مرحلة التيسير النقدي. وارتفاع قيمة الاستثمارات، سيعني استعادة قيمة الوديعة الأساسيّة خلال فترة أقرب من الـ 30 سنة الموعودة.

في خلاصة الأمر، لا يطرح المشروع، بصيغته الأساسيّة، زيادة إلتزامات الدولة وديونها العامّة، لكنّه يخفّض في المقابل من إلتزامات المصارف للمودعين ويسهم في معالجة فجوة الخسائر، من دون أن ينفي ضرورة عمليّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي. بل يمكن القول أن المشروع، بحسب هذه الصيغة، يتكامل مع عمليّة إعادة الهيكلة، ويشكّل أحد عناصرها على المدى البعيد.


المحاذير قائمة ومتعدّدة
هكذا، وبخلاف الصيغة الكارثيّة التي تم تداولها في بعض الأوساط النيابيّة، والتي تناولناها في المقال السابق، تحمل الفكرة بصيغتها الأساسيّة العديد من العناصر الإيجابيّة التي يمكن البناء عليها. غير أنّ تحقيق إيجابيّة الصيغة الأساسيّة، أو كارثيّة الصيغة المتداولة نيابيًا، سيتوقّف على النموذج الذي سيعتمده مصرف لبنان عند طرح الفكرة أمام فريق العمل الحكومي، الذي يعمل على خطّة التعافي الاقتصاديّة. أمّا الأهم، فهو أن تحقيق إيجابيّة الفكرة أو كارثيّتها سيعتمد كذلك على نوعيّة الخطّة الحكوميّة، ومدى تكاملها مع هذا المشروع المطروح.

ببساطة، المحاذير قائمة ومتعددة، وفي طليعتها تلك المرتبطة بإمكانيّة تحويل السندات الصفريّة إلى أداة لتحميل الدولة ودافعي الضرائب خسائر القطاع المصرفي. أمّا الأهم، فهو أن الفكرة حسّاسة من ناحية التوقيت، لكون تنفيذها يحتاج إلى بيئة نقدية تتسم بالفوائد بالمرتفعة، كما هو الحال، ليستفيد المودع عند خفض الفوائد لاحقًا كما أسلفنا الذكر.

في النتيجة، يبقى من المهم الإشارة إلى أنّ ما يجري اليوم، على مستوى النقاشات المتعلّقة بفكرة السندات الصفريّة، أعاد تحريك المياه الراكدة، بخصوص ملفّات إعادة هيكلة القطاع المصرفي واستعادة الانتظام المالي، وهذا ما يمثّل بحد ذاته نقطة إيجابيّة يفترض البناء عليها. فكما هو معلوم، مرّ أكثر من سنة وتسعة أشهر على توقيع التفاهم المبدئي مع صندوق النقد الدولي عام 2022، من دون أن ينفّذ لبنان الغالبيّة الساحقة من شروط هذا التفاهم، وهو ما فرمل منذ ذلك الوقت مسار التعافي المالي وعمليّة استعادة الانتظام في القطاع المالي. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها