في الميزانيّة النصف الشهريّة التي نشرها مصرف لبنان قبل أيّام، ثمّة ما يكفي من تغيّرات تدفع للتساؤل حول الإجراءات التي قام بها حاكم المصرف السابق رياض سلامة في أواخر أيّامه، وخصوصًا على مستوى إدارة احتياطات العملات الأجنبيّة المتبقية في المصرف.
عمليًا، لطالما كان الغموض هو السمة الأساسيّة لجميع جوانب السياسة النقديّة التي انتهجها سلامة، إلا أنّ حجم الدولارات التي جرى تبديدها في الأيّام الـ10 الأخيرة من ولايته، ومن دون أي تفسير منطقي، كان مفاجأة لم يتوقّع أحد حدوثها بهذا الشكل الفاقع.
كيف اختفت 608 مليون دولار خلال عشرة أيّام؟
تشير الميزانيّة نصف الشهريّة إلى تناقص حجم الاحتياطات السائلة المتبقية في مصرف لبنان من 9.65 مليار دولار أميركي في منتصف شهر تمّوز، إلى ما يقارب ال9.042 مليار دولار أميركي في بداية الشهر الحالي، أي بمجرّد انتهاء ولاية رياض سلامة. وبذلك، عكست الميزانيّة تناقصًا غريبًا في حجم الاحتياطات، بقيمة تُقدّر بنحو 608 مليون دولار، خلال فترة نصف شهر فقط، أو بالأحرى، خلال عشرة أيّام عمل. مع الإشارة إلى أنّ تناقص الاحتياطات بهذه الكميّة الضخمة، وخلال فترة قصيرة جدًا، تمثّل سابقة لم يشهدها المصرف المركزي منذ إطلاق منصّة صيرفة عام 2021.
من الصعب حسم الإجابة حول وجهة استعمال هذه الدولارات، لكنّ السيناريو المرجّح هو قيام سلامة والمصرف المركزي بحفلة ضخ جنونيّة للدولار في السوق الموازية، مقابل شراء الليرات النقديّة من السوق، قبيل انتهاء ولاية الحاكم، وإيقاف عمل المنصّة بحسب السياسة التي ينتهجها نوّاب الحاكم.
ومن هذه الزاوية، يمكن فهم التناقص الذي طرأ على الكتلة النقديّة المتداولة خارج مصرف لبنان، أي السيولة الورقيّة الموجودة في السوق بالليرة اللبنانيّة، والتي انخفض حجمها خلال نفس الفترة من 79.31 ألف مليار ليرة لبنانيّة، إلى 61.96 ألف مليار ليرة لبنانيّة، ما يعني أنّ المصرف المركزي امتصّ خلال النصف الثاني من شهر تمّوز 22% من الأموال المتداولة ورقيًا بالليرة في السوق. وهذا التطوّر، لا يمكن أن يحدث بهذا الشكل إلا عبر بيع مصرف لبنان الدولارات النقديّة، مقابل شراء الليرات الورقيّة من السوق الموازية، وبحسب الآليّات التي كانت تعتمدها منصّة صيرفة.
على هذا النحو، وفي مقابل امتناع نوّاب الحاكم حاليًا عن تشغيل منصّة صيرفة، "للحفاظ على الاحتياطات" كما يقولون، تشير الميزانيّة إلى أنّ مصرف لبنان كان قد بدّد خلال أيّام معدودة كميّات قياسيّة من الاحتياطات، للتمهيد لمرحلة وقف المنصّة والانتقال إلى آليّة جديدة للتداول بالدولار الأميركي. فتجفيف السوق من الليرات بهذا الشكل، لم يهدف إلا لضبط السوق لمنع أي مضاربات خلال الفترة الانتقاليّة الراهنة، التي يمتنع خلال المصرف المركزي من التدخّل في السوق. وهذا تحديدًا ما يفسّر عدم حصول خضّات على مستوى سعر صرف الليرة، بعد رحيل سلامة ولجم تدخّلات مصرف لبنان في السوق.
البديل عن "صيرفة" لم يبصر النور
كما بات معلومًا اليوم، أعلن نائب الحاكم الأول وسيم منصوري، القائم بأعمال حاكم مصرف لبنان حاليًا، وقف استقبال طلبات بيع الدولار عبر منصّة صيرفة، من جانب المصارف التجاريّة، مع الاستمرار بصرف رواتب موظفي القطاع العام بالدولار بحسب سعر المنصّة. كما طلب مصرف لبنان من السماسرة الذين اعتمد عليهم لجمع الدولارات من السوق، وقف عمليّات شراء الدولار لحسابه، بانتظار إطلاق آليّة بديلة للتداول بالعملات الأجنبيّة. وبهذا الشكل، يكون المصرف المركزي قد نعى رسميًا منصّة صيرفة بحلّتها القديمة، من دون أن يعلن حتّى اللحظة عن البديل المتاح للتداول بالعملات الأجنبيّة.
في النتيجة، ينسجم موقف نوّاب الحاكم بشكل تام مع الخيارات الإصلاحيّة التي يتبنّاها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ومنها تلك المرتبطة بضرورة توحيد سعر الصرف، عبر منصّة شفّافة تؤمّن بيع وشراء الدولار، كبديل عن منصّة صيرفة التي تحوّلت إلى أداة للمضاربة والربح السريع، وهذه خطوة إيجابيّة تُسجّل لنوّاب الحاكم.
إلا أنّ المشكلة الأساسيّة هنا، هي أنّ نوّاب الحاكم تسرّعوا في إلغاء المنصّة وفرملة تدخّلهم في سوق القطع، قبل إطلاق البديل الذي يفترض أن يسمح باستكمال تدخّل المصرف المركزي، لكن بشكل شفّاف وعبر آليّة تداول نزيهة قادرة على استيعاب حركة العرض والطلب في السوق. مع الإشارة إلى أنّ تعويم سعر الصرف لا يعني بالضرورة تخلّي مصرف لبنان عن واجبه بما يخص الحفاظ على قيمة النقد الوطني، عبر التدخّل للجم المضاربات عند الحاجة، وبقدر ما هو مطلوب.
أمّا المشكلة الثانية، فهي أنّ نواب الحاكم لم يعالجوا بعد إشكاليّة تأمين التمويل بالعملات الأجنبيّة للقطاع العام، لسداد النفقات التي لا يمكن تسديدها إلا بالعملة الصعبة، عبر بيع الدولة الدولارات مقابل الليرات النقديّة. وهذه الآليّة، التي يفترض أن تندرج من ضمن سياسة توحيد وتعويم سعر الصرف، وعبر آليّة التداول بالعملات الأجنبيّة، يتم استبدالها حاليًا بفكرة إقراض الدولة، من الاحتياطات، ما سيعني استمرار الاستنزاف الحاصل في الاحتياطات بدل اعتماد سياسة نقديّة منتظمة ومستدامة.
في جميع الحالات، بحلول يوم الإثنين المقبل، من المفترض أن تتضح أكثر وجهة نوّاب الحاكم بخصوص مسألة تمويل الدولة بالعملات الأجنبيّة، خصوصًا إذا استمرّ التعثّر الحاصل في مسار إقرار عقد قرض اقتراض الدولة اللبنانيّة بالدولار الأميركي. وفي الوقت نفسه، من المفترض أن يتضح خلال الأسابيع المقبلة مصير آليّة التداول بالعملات الأجنبيّة، التي يتحدّث عنها نائب الحاكم الثالث سليم شاهين، والتي يفترض أن تعتمد آليّات شفّافة للتداول كما صرّح شاهين سابقًا. وبذلك، يمكن عندها تلمّس المعالم الأساسيّة لمرحلة ما بعد سلامة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها