بعد الكثير من التكهّن حول موقف صندوق النقد من تعديلات السريّة المصرفيّة التي أقرّها المجلس النيابي، تسرّبت مذكرة غير مخصّصة للنشر من إعداد فريق عمل الصندوق القانوني، لتقييم هذه التعديلات ودراسة مدى قدرتها على تحقيق الأهداف المتوخاة منها (راجع المدن). المذكرة التي حرص صندوق النقد على إعدادها بنبرته الدبلوماسيّة المعهودة، تؤكّد بما لا يقبل الشك أنّ الصندوق يعتبر التعديلات التي صادق عليها المجلس النيابي مفخّخة على نحو يفرغها من أهدافها الأساسيّة، وهو ما دفعه إلى وضع لائحة بالثغرات التي يُفترض أن تتم معالجتها خلال المرحلة المقبلة. مع الإشارة إلى أنّ أهميّة رأي الصندوق ينطلق من كون هذه التعديلات تمثّل إحدى الشروط الثمانية في التفاهم المبدئي بين لبنان والصندوق، والتي يفترض أن يتم تنفيذها قبل الانتقال إلى مرحلة الاتفاق النهائي على برنامج قرض للبنان.
في كل الحالات، وبعد أن بيّنت المذكّرة تحفّظات الصندوق على التعديلات، بات من الأكيد أنّ لبنان لم ينفّذ حتّى اللحظة أي شرط من الشروط الثمانية الواردة في التفاهم المبدئي، في ظل العراقيل المحليّة التي تمنع تنفيذ جميع الشروط الأخرى. وفي الوقت نفسه، تؤكّد هذه المذكّرة أن رد رئيس الجمهوريّة لهذه التعديلات إلى المجلس النيابي، وعدم توقيعه على القانون، يرتبط بالدرجة الأولى بتقييم صندوق النقد السلبي لها، والذي سيجعل التعديلات لزوم ما لا يلزم، لكون الهدف الأساسي من إقرارها كان الامتثال لشروط صندوق النقد (راجع المدن).
مع الإشارة إلى أنّ هدف الصندوق من اشتراط هذه التعديلات يكمن في رغبته بتقليص نطاق السريّة المصرفيّة، لتسهيل مكافحة الإثراء غير المشروع من قبل القضاء، وملاحقة التهرّب الضريبي من قبل السلطات الضريبيّة، بالإضافة إلى تتبّع المخالفات المصرفيّة والتدقيق بميزانيّات المصارف من قبل لجنة الرقابة على المصارف. وهذا تحديدًا ما يفسّر خشية الطبقة السياسيّة وكبار النافذين في النظام المالي من هذا المطلب، ما دفعهم إلى محاولة التذاكي على صندوق النقد بتفخيخ التعديلات وإبطال أثرها الفعلي (راجع المدن). لكن كما كان واضحًا من المذكرة، لم تنطلِ هذه الحيلة على صندوق النقد.
صورة عن المذكرة المسربة
ثغرات تحمي المخالفات المصرفيّة
يمكن القول أنّ الثغرات التي أشار إليها صندوق النقد تكفي للاستنتاج بأنّ التعديلات ما زالت بعيدة جدًّا عن ما طلبه الصندوق في محادثاته مع الوفد اللبناني المفاوض، بل وأنّ التعديلات لا تحقق أبسط الأهداف الأساسيّة المطلوبة منها.
فالمذكّرة تعتبر أنّه كان من المفترض منح صلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة لكل من مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف والمؤسسة الوطنيّة لضمان الودائع، مع تعداد هذه الأطراف الثلاثة بشكل صريح من ضمن "الجهات المختصّة" التي يحق لها طلب المعلومات بشكل مباشر من المصارف، من دون المرور بأطراف أخرى. كما انتقدت المذكرة ربط آليّة حصول لجنة الرقابة على المصارف ومصرف لبنان على المعلومات المصرفيّة بمرسوم يقترحه وزير الماليّة ويقرّه مجلس الوزراء، لكون ذلك سيحد من استقلاليّة اللجنة والمصرف المركزي، وسيفتح المجال أمام المماطلة في منحهما هذه الصلاحيّة.
مع الإشارة إلى صندوق النقد يعتبر هذه الخطوة ضروريّة لارتباط هذه الصلاحيّة بمسارات إعادة هيكلة القطاع المصرفي والتدقيق في المخالفات المصرفيّة، وهو ما يفسّر الأفخاخ التي جرى نصبها في هذا الجانب من التعديلات. ورغم انعدام الثقة في الوقت الراهن بأداء حاكم مصرف لبنان، ستفتح هذه الصلاحيّة المجال أمام فرض رقابة جديّة على المصارف بعد إعادة هيكلة مصرف لبنان نفسه في المستقبل، كما تنص خطّة التعافي المالي، وبعد انتهاء ولاية سلامة خلال العام المقبل.
أفخاخ تقيّد القضاء وتحمي الفساد
ورغم أن القانون يعطي السلطة القضائيّة حق طلب المعلومات المصرفيّة، إلا أنّ المذكرة تنتقد عدم وجود آليّة لفرض تطبيق هذا القانون. كما تطلب المذكرة بوضوح تحديد الأدوار والصلاحيّات التي يملكها لهذه الغاية قضاة النيابات العامّة وقضاة التحقيق، تمامًا كما كان الحال في المسودّة الأصليّة للتعديلات التي أقرّتها الحكومة، قبل أن يقوم المجلس النيابي بتعديلها، على أن يتم إدخال هذه البنود من ضمن قانون أصول المحاكمات الجزائيّة. وهنا، بدا من الواضح أن الصندوق ارتاب من الصياغة الملتبسة في التعديلات، التي تسمح بتقييد قضاة التحقيق وربط صلاحيّاتهم برفع السريّة المصرفيّة بجهات أخرى، كهيئة التحقيق الخاصّة أو النيابة العامّة الماليّة. ولذلك، طلبت المذكرة تضمين التعديلات نصوص تسمح للقضاة بطلب المعلومات المصرفيّة بشكل مباشر، معتبرةً أنّ هذه المسألة "ستحدّد فعاليّة الإصلاحات في فرض الشفافيّة."
كما انتقدت المذكرة تضمين التعديلات بنود تعظّم من عقوبة "خرق السريّة المصرفيّة"، إلى حدود السجن لمدّة تصل لغاية عام كامل. فتضخيم عقوبة خرق السريّة المصرفيّة على هذا النحو، يمكن أن يلعب دورًا سلبيًا يحبط مساعي ملاحقة النشاطات المشبوهة أو الجرميّة وكشفها. وبهذا الجانب، بدا أن صندوق النقد متوجّس من إمكانيّة استخدام هذه العقوبة المضخّمة بشكل "غير متناسب"، من أجل التضييق على إمكانيّة رفع السريّة المصرفيّة حتّى ضمن حدود القانون عبر التعديلات التي تم إقرارها، وذلك عبر الترهيب بعقوبة "خرق السريّة المصرفيّة".
ملاحظات أخرى متفرّقة
بالإضافة إلى ذلك، طلبت المذكرة تصحيح بعض الثغرات الأخرى، من قبيل السماح للجهات المختصة بفرض غرامات مباشرة عند تمنّع المصارف عن تزويدها بالمعلومات المصرفيّة، بدل ربط محاسبة المصارف بالهيئة المصرفيّة العليا. كما طلبت المذكرة تضمين التعديلات بنوداً تسمح برفع السريّة المصرفيّة عن مجموعة من الحسابات حسب معيار محدد، بدل حصر هذه الصلاحيّة برفع السريّة المصرفيّة عن حسابات محددة بالإسم فقط. وأخيرًا، طلبت المذكرة إضافة بند يسمح للجهات المختصّة، التي تملك صلاحيّات تخطي السريّة المصرفيّة، بتبادل المعلومات في ما بينها، في إطار قيام هذه الجهات بعملها.
أمّا بالنسبة إلى مسألة المفعول الرجعي، اعتبرت المذكرة أن مجرّد إقرار تعديلات السريّة المصرفيّة ستسمح بتطبيق النصوص القانونيّة الجديدة على جميع الداتا المصرفيّة المتاحة، بمعزل عن تاريخها. ما يعني أنّ الصندوق اكتفى من هذه الناحية بعدم ذكر المسألة إطلاقًا كما هو الحال الآن، من دون أن يرى ضرورة لمادّة تسمح بتطبيق القانون بمفعول رجعي، ومن دون أن يرى في الوقت نفسه أنّ عدم ذكر المسألة تحمي الداتا المصرفيّة التي يسبق تاريخها تاريخ إقرار القانون. مع الإشارة إلى أنّ جمعيّة المصارف حاولت –وبعكس ذلك تمامًا- تضمين التعديلات مواد تمنع تطبيقها بمفعول رجعي.
التفاهم المبدئي تعثّر
دخل لبنان شهر أيلول، الذي يُفترض أن يشهد تقييم المجلس التنفيذي لصندوق النقد لتقدّم لبنان في تطبيق شروط التفاهم المبدئي. وبينما كان من المُخطط أن يكون لبنان قد أنجز تنفيذ الشروط قبل هذا الاجتماع، لأخذ الموافقة من المجلس التنفيذي على الاتفاق النهائي، بات من الواضح أن مسار التفاهم المبدئي قد تعثّر بشكل تام من دون أن ينفّذ لبنان أي من شروطه حتّى اللحظة. وفي حال انقضاء شهر أيلول على هذا الحال، فسيكون على الوفد اللبناني المفاوض أن يشرع بتعديل خطة التعافي المالي من جديد، لتوائم أرقامها مع تضخّم حجم الخسائر طوال الأشهر الماضية، قبل معاودة المحادثات مع الصندوق ومحاولة إحياء مسار التفاهم معه.
وفي كل الحالات، بات من الواضح أن لبنان لن يتمكّن خلال شهر أيلول من إنجاز الشروط الثمانية المتبقية، خصوصًا أن بعضها ينص على مسارات طويلة وشائكة، من قبيل إعداد قانون إعادة هيكلة المصارف وتحضير استراتيجيّة لإعادة هيكلة الدين العام، وهي مسارات لم تباشر الحكومة العمل عليها بعد. ولهذا السبب، من المرجّح أن يصل لبنان إلى مرحلة اجتماع المجلس التنفيذي لصندوق النقد خاليَ الوفاض، من دون تحقيق شروط التفاهم، ما يعيدنا إلى نقطة الصفر.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها