منذ يوم الأحد الماضي، صال وجال "وفد روسي رفيع المستوى" على القيادات اللبنانيّة، برئاسة مدير شركة "هيدرو للهندسة والبناء" أندريه نتسغر. وما إن وطأت أقدام الوفد الزائر أرض البلاد المفلسة، حتّى وجد البعض في زيارتهم دلالة على الفرص المدهشة التي يمكن أن يجدها لبنان، بمجرّد أن يستدير نحو العروض الشرقيّة.
خيالات كبيرة
ببساطة، ثمّة من يريد أن يقول للبنانيين أن أزمتهم ليست في طبيعة الممسكين بالقرار السياسي، ولا في النموذج الاقتصادي الذي بنته الزمرة الحاكمة وفقاً مصالحها، والذي تقاوم لأجله أي رؤية معاكسة لهذه المصالح. ثمّة من لا يعترف هذه المرّة أن حجم الانهيار صار أكبر من أن يتم ترقيعه بحلول هامشيّة، وأن المعالجة باتت تحتاج إلى إعادة نظر جذريّة في طريقة إدارة البلاد، وفي من يديرها أصلاً. المشكلة بالنسبة لهؤلاء هي أن لبنان لا يسمع هذا النوع من العروض خوفاً من الغرب، فلنسمع الروس هذه المرّة!
وها هو الوفد الخيالي لا يخيّب ظن هؤلاء، بعروضه التي شملت ما لا يمكن أن تتخيل سماعه، في دولة تعاني لتأمين الدولارات لشراء فيول الكهرباء: الوفد يريد تأهيل مصفاتي النفط في طرابلس والزهراني، بعد أن يتم ربطهما بأنابيب النفط الدوليّة. الوفد يرغب بإعادة بناء مرفأ بيروت، وتوسيع مرفأ طرابلس.. هناك مشاريع لبناء سكك القطار عبر المناطق اللبنانيّة، ومن ثم ربطها بالدول المجاورة. أهم ما في الموضوع، هو أن الروس يرغبون بشراء أحد المصارف اللبنانيّة، في النظام المصرفي المنهار إياه، لتسهيل تداولاتهم الماليّة بعد أن يستثمروا في قطارات وموانىء ومصافي وأنابيب نفط. ألا تحتاج إمبراطوريّة ماليّة من هذا النوع مصرفاً؟ الروس سيشترون مصرفاً في لبنان!
جال الوفد على وزراء حكومة تصريف الأعمال، الذين لم يجرؤ أحدهم على السؤال عن جديّة هذه الزيارة والمشاريع، ربما خوفاً من صيت "الخائفين من الغرب"، الذين يعرقلون "مسار الخروج من الانهيار" عبر تجاهل هذا النوع من العروض. لم يسأل أحد: كيف يستثمر عاقل في هذه المشاريع التي تصل كلفتها إلى عشرات مليارات الدولارات، في دولة لم تملك عملة صعبة لإعادة سنت واحد من أرباح المشاريع للمستثمر؟ كيف يستثمر أحد في أنابيب نفط ومصافٍ، والبلاد تحت سيف العقوبات التي لا تسمح باستيراد نقطة بترول من سوريا؟ أي مصرف سيشتريه الروس لتسهيل عملياتهم الماليّة، ولا يوجد ما يضمن أن يستعيد النظام المالي قدرته على إجراء عمليات مصرفيّة طبيعيّة قبل عدة سنوات؟
شركة وهمية بـ150 دولاراً!
سرعان ما سيذوب الثلج ويبان مرج الوفد الروسي. شركة "هيدرو للهندسة والبناء"، صاحبة هذا الخيال الجامح، لم يمض على تأسيسها أكثر من خمسة أشهر، ولا يتجاوز رأسمال تأسيسها 150 دولاراً أميركياً، فقط لا غير. لا تملك الشركة في رصيد إنجازاتها مشروعاً واحداً، لا في مجال القطارات ولا الموانىء ولا تكرير النفط.. ولا تملك حتماً ما يؤهّلها لإدارة مصرف لبناني، حتى لو كان من صنف "مصارف الزومبي" التي تكتفي بخدمات السحب والإيداع.
المسألة واضحة: إنها شركة واجهة، أو شركة وهميّة، من تلك الشركات التي احترف رجال الأعمال الروس خلقها هنا وهناك، للاستفادة من مد النفوذ السياسي الروسي. فلنبحث إذاً عن من وراء شركة "هيدرو للهندسة والبناء"، خصوصاً أن الاحتفاء الإعلامي بالوفد يوحي بأن خلفه من أعطى كلمة السرّ التي تفرض استقباله على هذا النحو.
الشركة الوهميّة، ليست سوى واجهة لشركة روسيّة أخرى إسمها "ستروي ترانس غاز" التي ذاع صيتها في سوريا تحديداً، بوصفها إحدى الشركات المشبوهة التي اقتصر نشاطها على توزيع المغانم البتروليّة ما بين رجال الأعمال الروس المقربين من بوتين، ورجال نظام الأسد. عمل الشركة في سوريا لم يخرج يوماً من المساحة الرماديّة، التي تختلط فيها السوق السوداء بالسوق الشرعيّة، حتّى حين تطلّب الأمر بعض الصفقات الجانبيّة مع تنظيم داعش لتشغيل آبار النفط في مناطق نفوذه، مقابل تقاسم العائدات. وبطبيعة الحال، شركة كهذه مدرجة على مختلف اللوائح السوداء الدوليّة، ولا تملك القدرة على ممارسة أي نشاط طبيعي في الأسواق الدوليّة، ما يحتّم عليها التخفّي خلف واجهة كـ"هيدرو للهندسة والبناء".
علاقة بحسواني وأمونيوم المرفأ
المسألة لا تنتهي هنا. قليل من البحث يقودنا إلى حقيقة أخرى: الذراع التنفيذيّة لستروي ترانس غاز في سوريا، ليست سوى شركة هيسكو، التي يديرها جورج حسواني، الرجل الذي ذاع صيته بعد انفجار 4 آب. جورج حسواني ليس سوى أحد رجالات النظام السوري الذي تقاطعت عناوين شركاتهم، وخطوط إمداد نفطهم، مع عنوان ونشاط شركة "سفارو" الوهميّة التي امتلكت شحنة نيترات الأمونيوم، التي حلّت في مرفأ بيروت وانفجرت لاحقاً. وبفضل الصحافة الاستقصائيّة فقط، كان بالإمكان الكشف عن شبهة امتلاك رجال الأعمال هؤلاء لشحنة الأمونيوم التي انفجرت.
ماذا يفعل المسؤولون اللبنانيون إذاً؟ المسألة برمتها باتت عبارة عن محادثات مع شركة روسيّة وهميّة، تمثّل مصالح شركة روسيّة مشبوهة تمارس أنشطة "مافيا الحرب" في سوريا. والشركة الروسيّة الأم، تتقاطع طريقها مع طريق نيترات الأمونيوم، التي فجرت مرفأ بيروت. وها نحن ننتظر من المافيا إياها إعادة بناء المرفأ.
من يسأل المسؤولين اللبنانيين عن كل هذا "التخبيص" اليوم؟ ولأجل ماذا كانت كل هذه العراضة الإعلاميّة الفارغة؟ هل المطلوب أن نفتعل مسرحيّة "حل شرقي" آخر لمجرّد التهرّب من استحقاقات التعامل مع جذور الأزمة الماليّة والاقتصاديّة؟ وهل المطلوب أن يتم غض النظر عن سبب استطالة الأزمة، والمتمثّل بتعنّت الطبقة السياسيّة ورفضها أي مس بمصالحها؟ بمعزل عن الإجابة، الأكيد هو أن مسرحيّة الوفد الروسي تصلح لأن تكون نكتة سوداء في زمن طوابير الذل على محطات الوقود.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها