المصارف قررت استباق هذا المسار، وطرح خطتها الشاملة للتعافي المالي من جانب واحد، ربما لمحاولة تحديد سقف الخسائر الذي تريد أن تحمله من هذه الأزمة. لكن وبدلاً من أن تركّز هذه الخطّة على الطريقة التي سيستعيد من خلالها القطاع المصرفي انتظامه، ويتخلّص عبرها تدريجياً من الخسائر المتراكمة في ميزانيّته وميزانيّة مصرف لبنان، جاءت الخطة خالية من أي معالجات ملموسة أو واقعيّة على المستوى المصرفي، رغم أنّها عمليّاً: خطة من تحضير جمعيّة المصارف!
باختصار: ناقشت جمعيّة المصارف كل المشاكل الاقتصاديّة التاريخيّة في الجمهوريّة اللبنانيّة، في جميع القطاعات تقريباً بلا استثناء، من دون أن تقدّم مقاربة تصحيحيّة واحدة لأهم جوانب الأزمة القائمة اليوم، المتعلّقة بتعثّر القطاع الذي تمثّله الجمعيّة نفسها. والرغبة في تفادي الحديث عن فجوة خسائر المصارف ومصرف لبنان، لا يعكس إلّا الرغبة في تفادي معالجة هذه الخسائر منذ الأساس، طالما أن هذه المعالجات قد تمسّ في النهاية برساميل المصارف نفسها.
لنبحث إذاً عن توزيع الخسائر، كما تريده خطة المصارف.
"التخبيص" في تشخيص الأزمة
يصعب التصديق أن الاستشاري المالي الذي اختارته جمعيّة المصارف لإعداد دراسة بهذا الحجم لا يملك المعطيات الكافية لتشخيص الأزمة الحاليّة. هذه الحقيقة وحدها تدفعنا للاعتقاد بأن هدف التشخيص الركيك للأزمة، لم يكن سوى الوصول إلى معالجات من النوع الذي تريده جمعيّة المصارف، وبما يخدم مصالحها لاحقاً.
في التشخيص الأولي، يبدو اتخاذ قرار التوقّف عن سداد سندات اليوروبوند في آذار 2020، لحظة مفصليّة بالنسبة إلى واضعي الخطة. قبل هذا التاريخ، يتم تعداد بعض عوارض التأزّم البسيطة في بضعة أسطر، من قبيل عجوزات الميزانيّة العامّة وتراجع معدلات النمو الاقتصادي. لكنّ لحظة التوقّف عن سداد السندات هي ما أدّى إلى مفاقمة جميع تداعيات الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة، قبل أن يؤدّي انفجار الرابع من آب إلى دمار البنية التحتيّة للمدينة وشبكات المواصلات، بالإضافة إلى المؤسسات التجاريّة والمساكن.
هذا التشخيص الأولي، يتغافل عن ذكر تسع سنوات من العجز في ميزان المدفوعات –صافي التحويلات بين لبنان والخارج- بين 2011 و2019، قام خلالها مصرف لبنان باستنزاف احتياطاته للدفاع عن سعر الصرف، وتمويل التحويلات إلى الخارج. كما يتغافل عن ذكر الفجوة التي بدأت، نتيجة هذه التطورات، بالظهور داخل ميزانيات مصرف لبنان منذ ذلك الوقت، والتي مثّلت الفارق بين ما أودعته المصارف في مصرف لبنان من أموال المودعين بالعملات الأجنبيّة، وما تبقى من هذه الأموال.
وحتّى بعد انتهاء التشخيص الأولي، والدخول في تفاصيل تطوّرات السنوات السابقة وما نتج عنها من مشاكل، لا تعرض الرسوم البيانيّة والجداول في الخطّة أي أرقام في ما يخص فجوة خسائر مصرف لبنان أو المصارف، أو نسبة الاستنزاف في احتياطات المصرف المركزي. مع الإشارة إلى أن هذه الرسوم والجداول يفترض أن تحدد مكامن الخلل التي ستتعامل معها الخطّة لاحقاً. أما الرسوم البيانيّة والجداول المتاحة، فاقتصر مضمونها على عرض ارتفاع معدلات التضخّم وتدني مستويات الناتج المحلي، وهي مؤشرات عموميّة لا تدخل في تفاصيل الأزمة والعوامل التي أدّت إلى الانهيار المالي.
وضعيّة مصرف لبنان
في الواقع، تضطر خطة جمعيّة المصارف –ورغماً عنها- للتطرّق لوضعيّة مصرف لبنان بشكل عابر، عند الحديث عن المفاوضات مع صندوق النقد وشروطه، فيبرز إلى الواجهة الشرط المتعلّق باستعادة ملاءة مصرف لبنان. لكن حتّى عند الوصول إلى هذه النقطة من الحديث، تذهب الخطّة مباشرة للحديث عن أزمة ديون الدولة المستحقة لمصلحة مصرف لبنان، وعلاقة هذه المسألة بحالة التعثّر التي يمر بها المصرف المركزي، من دون أن تقدّم أي رقم يفسّر هذا الربط.
وهنا مجدداً، تدخل الخطة في خطأ فادح من ناحية تشخيص الأزمة. فأزمة ملاءة مصرف لبنان، وتحديداً تلك المتعلّقة بموجوداته بالعملات الأجنبيّة، ترتبط بفجوة خسائر تتجاوز قيمتها 66 مليار دولار أميركي داخل ميزانية المصرف نفسه، ولا ترتبط أبداً بديون الدولة المستحقة لمصلحة مصرف لبنان. وهذه الفجوة متعلّقة بما بدده المصرف المركزي خلال السنوات الماضية في عمليات الهندسات الماليّة وتمويل التحويلات إلى الخارج. وكل هذه العمليّات، تتصل بدورها بما حققته المصارف وكبار المودعين من أرباح، وبالأرباح التي حوّلها هؤلاء إلى الخارج بالاستفادة من احتياطات مصرف لبنان. أما ديون الدولة لمصلحة مصرف لبنان بالعملات الأجنبيّة، فبالكاد تتجاوز قيمتها 5 مليار دولار أميركي.
الخسائر تتحمّلها الدولة.. وأملاكها للمصارف
ما إن نرى الحلول التي تطرحها، حتّى نفهم سبب كل هذا "التخبيص" في تشخيص المشكلة، والإصرار على حصرها بأزمة مديونيّة الدولة، والتغاضي عن الحديث عن خسائر القطاع المصرفي ومصرف لبنان. فالحل لاستعادة ملاءة مصرف لبنان ليس سوى تأسيس شركة تضم أصول الدولة القابلة للاستثمار والمشاعات والأملاك البحريّة، على أن يتملّك أسهم الشركة التفضيليّة مصرف لبنان، مقابل جميع الإلتزامات التي تدين بها الدولة لمصلحة المصرف المركزي بالليرة اللبنانيّة. وبهذه الطريقة، سيكون بإمكان مصرف لبنان إطفاء خسائره وخسائر القطاع المصرفي بأسره، من خلال عوائد وأرباح هذه الشركة، والأصول التي يتم استثمارها. معنى آخر: سنكون قد حمّلنا خسائر المصارف للأموال العامّة.
أما خطورة هذه الخطوة، فتكمن في إمكانيّة التفريط بملكيّة أصول الدولة لاحقاً، إذا ما قرر مصرف لبنان أن يصفّي إلتزاماته للمصارف بإعطائها أسهم الشركة التفضيليّة التي يملكها، خصوصاً إذا لم تكفِ عوائد هذه الشركة على المدى الطويل لسداد إلتزاماته للمصارف. ففي هذه الحالة، سيكون القطاع المصرفي قد وضع يده على أصول الدولة بشكل مباشر، من خلال الأسهم التفضيليّة، للتعويض عن الأموال التي وظفها في مصرف لبنان، والتي سلّفها المصرف المركزي للدولة.
وبهذه الطريقة، ستكون المصارف قد تخلّصت من استحقاق التعامل مع الخسائر المتراكمة في القطاع المصرفي، بالطريقة التي اقترحتها شركة لازارد في خطتها السابقة، والتي نصّت على تحميل جزء وازن من الخسائر لرساميل المصارف نفسها. وبينما انطلقت لازارد في ذلك من منهجيّة عمل تحدد خسائر القطاع المصرفي بدقّة، لتفادي تحميل هذه الخسائر للأموال العامّة وأصول الدولة، ذهبت خطة المصارف الجديدة باتجاه معاكس تماماً، عبر تجاهل هذه الخسائر بشكل تام، وحصر أسباب التعثّر بالدين العام لوضع اليد على أصول الدولة، وتعويم مصرف لبنان والمصارف من خلال مصادرة هذه الأصول.
تجميع أفكار
باستثناء القفز فوق موضوع الخسائر المصرفيّة وتجاهله، والتركيز على أصول الدولة للتعامل مع تعثّر مصرف لبنان، لا تذكر الخطّة فكرة واحدة يمكن الاعتماد عليها في ما يخص أزمة السيولة في المصارف. في أحد مقاطع الخطّة، يتم الحديث عن إعادة هيكلة القطاع المصرفي، لكن بعد دراسة وضع كل مصرف على حدة، وحسب خطط إعادة الرسملة التي وضعها مصرف لبنان منذ فترة.
هنا، تنتهي مسؤوليّة المصارف في ما يخص الأزمة، لتنطلق الخطة بسرد لائحة لا تنتهي من الأفكار التي ترتبط بجميع القطاعات الأخرى من دون استثناء، وهي بمجملها أفكار منسوخة بحرفيتها من خطة ماكنزي ومشاريع مؤتمر سيدر. هذه الأفكار تمتد من إصلاح النظام الضريبي وتطبيق مشاريع الشراكة مع القطاع الخاص، وصولاً إلى إصلاح صناديق التقديمات الاجتماعيّة وإدارة قطاع الاتصالات وإنعاش الزراعة وتطوير أنظمة تسجيل الشركات. كما تحتوي الخطّة على صفحات مطوّلة مليئة بالنظريات التي تفصّل الطريقة التي يفترض أن تُدار من خلالها قطاعات الصحة وتكنولوجيا المعلومات والعقارات والبناء والكهرباء وإدارة النفايات الصلبة والمياه والسياحة وغيرها.. باختصار، شملت الخطة كل ما يمكن شمله من حلول عمليّة لجميع القطاعات، إلا القطاع المصرفي.
في مقابل إعفاء المصارف من كلفة التصحيح المالي، تذهب الخطة باتجاه اقتراح كل ما من شأنه أن يحمّل سائر المقيمين كلفة هذا التصحيح: رفع نسبة الضريبة على القيمة المضافة إلى 16%، وخفض كلفة الأجور في ميزانيّة الدولة، وتخفيض عدد العاملين في الأسلاك العسكريّة، بل وتذهب الخطة أبعد من ذلك من خلال طلب خفض كلفة البرامج التقاعديّة للعسكريين. مع الإشارة إلى أن ما يستفيد منه العسكريون اليوم من برامج التقاعد فقد أساساً قيمة الفعليّة، من خلال تدهور سعر صرف الليرة اللبنانيّة، بينما تأتي خطة المصارف الجديدة لتطلب المزيد من الانخفاض في حجم التقديمات للمتقاعدين.
في المحصّلة، تدرك جمعيّة المصارف أن الغالبيّة الساحقة من صفحات هذه الخطة ليست سوى تكرار للكلام نفسه الذي ورد في العديد من الخطط السابقة. أما الهدف من هذه الخطة، فليس سوى تحديد أفق التفاوض مع الحكومة في المرحلة المقبلة، وخصوصاً في ما يتصل بحجم الخسائر الذي يريد القطاع المصرفي تحمّله.
ما أرادت الخطّة قوله، هو أن منهجيّة التفكير في أي خطّة ماليّة مقبلة يجب أن تبدأ من تجاهل أزمة القطاع المصرفي نفسها، وأن تنطلق من ما يمكن استثماره من أصول الدولة للتعامل مع خسائر الأزمة. وهذه المسألة بالتحديد، ستكون هدف المصارف في أي مفاوضات مقبلة مع
الدولة.
نص الخطة
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها