تتعدّى آثار الهندسات المالية لمصرف لبنان تراجيديا انهيار سعر صرف الليرة والأزمة التي نشهدها حالياً. فمدّخرات اللبنانيين و"جنى عمرهم" ليس الأمر الوحيد الذي يخسره المواطنون، مقابل مراكمة أرباح المصارف وكبار المتمولين. بل إن هذه الخسارة تشمل مروحة واسعة من الحقوق والمكتسبات. وهي بدأت قبل هذه الأزمة بزمنٍ طويل. فمنذ العقد الماضي والمصرف المركزي يدأب على سلب اللبنانيين، ولا سيما الطبقات الهشة منهم، حقهم في السكن، سياسة بعد سياسة، وتعميم بعد تعميم، حتى أضحى المسكن بمثابة سلعة مفرغة من قيمتها الاجتماعية بل والإنسانية.
علاقة السكن بالإفلاس ومصرف لبنان كان موضوع حلقة نقاش نظمتها مجموعة "بيروت مدينتي" في اللعازارية، يوم الجمعة 6 كانون الأول، مستضيفةً باحثات من "مختبر المدن بيروت" في الجامعة الأميركية. وتحت عنوان "السكن مش سلعة"، شرّحت الباحثات السياسات السكنية والمالية الصادرة عن مصرف لبنان والدولة عموماً، كاشفةً مكامن اللاعدالة فيها. إذ أكّدت الدكتورة في الدراسات الحضرية والتخطيط منى فواز أن "الأزمة السكنية المتمثلة بالارتفاع الجنوني لأسعار الشقق ليست أزمة عرض وطلب، كما يتمّ الترويج لها. وذلك بدليل أن شقة من أصل أربع في بيروت الإدارية شاغرة، حسب أرقام البلدية وحسب مسح أجريناه".
المصارف والمضاربة العقارية
أحد أهم أسباب ارتفاع أسعار العقارات، وفق فواز، هو "سياسة مصرف لبنان التي ربطت سعر صرف الليرة بالسوق العقاري لجذب الرأسمال من الخارج". هذا بالإضافة إلى تقديم سلسلة من الحوافز للمصارف من أجل الاستثمار في العقار. وبالتالي دخولها كلاعب أساسي في المضاربة العقارية. حصل ذلك من خلال عدد من التعميمات والقرارات منها: القرار65 عام 1999 الذي سمح للمصارف بتملّك عقارات إستيفاءً للديون المتعثرة، بعد أن كانت ملزمةً ببيعها في المزاد العلني، إضافةً إلى سماح مصرف لبنان للمصارف باستخدام الاحتياطي الإلزامي من أجل منح القروض، واستمراره في تخفيض هذا الاحتياطي الإلزامي عام 2001، ثم 2007 ثم 2009.
بنتيجة تحويل رساميل المصارف والمستثمرين إلى ملكيات عقارية، أصبح الحفاظ على سعر صرف الليرة يحتّم الإبقاء على أسعار عالية للعقارات، وذلك مقابل التبخيس بالحق في السكن الذي تضمنه الاتفاقيات الدولية التي وقّع عليها لبنان، والتضحية بالدور الاجتماعي للأرض. وقد كان لهذا النهج "تداعيات وخيمة على الاقتصاد لجهة تحويله إلى اقتصاد ريعي وإهمال القطاعات الإنتاجية، ما يصبّ في صلب الأزمة التي نعيشها اليوم،" وفق فواز.
العقارات كصناديق ودائع
وعليه، استمرّت أسعار العقارات في الارتفاع، خصوصاً بين الأعوام 2008 و2013، حتى تجاوزت القدرة الشرائية للبنانيين بأضعاف، إذ بلغت نسبة هذا الإرتفاع 300 في المئة، مقابل إرتفاع الحدّ الأدنى للأجور بنسبة 35 في المئة فقط. أما مخطّط مصرف لبنان الجهنمي لمعالجة هذه المعضلة، فتجسّد بمواصلة رفع سقف القروض السكنية المدعومة، حتى وصلت قيمة القرض الواحد إلى 800 ألف دولار (تعميم 485 عام 2018)، وهي قروض ذهبت لصالح الطبقات الميسورة والمغتربين الذين يتعاطون مع العقارات، لا كوحدات سكنية، وإنما كصناديق ودائع لمدّخراتهم. لم تأتِ القروض إذاً كسياسة إسكانية هدفها خدمة الفئات الأكثر هشاشةً، كما يتمّ تصويرها، ذلك أن المستفيد الأكبر من مراكمة الديون على كاهل اللبنانيين هو المصارف وكبار المطورين العقاريين ذوي الارتباط الوثيق، إلى حدّ التشابك، مع الطبقة الحاكمة.
إن شبكة المصالح التي تربط السياسيين والمسؤولين والمشرعين وواضعي السياسات ومانحي التراخيص والاستثناءات.. أدّت إلى إحتكار السوق العقارية بشكلٍ شبه كامل، بحيث أن نصف العمران الحديث في بيروت الإدارية هو صنيعة خمسة بالمئة فقط من المطورين. وعددهم لا يتجاوز خمسين رجلاً. يضاف إلى ذلك الهيمنة الذكرية على هذا القطاع التي لم تخرقها سوى إمرأة واحدة هي المطورة الوحيدة بين 1000 رجل. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأرقام مستمّدة من قاعدة بيانات طوّرها فريق بحثي في "مختبر المدن" تديره فواز.
انتفاع الأقلية
ولم تقتصر السياسات الخاطئة على مصرف لبنان وحسب، بل يضاف إليها تشريعات مجلس النواب لقوانين غير منصفة مثل قانون تملّك الأجانب الذي حرم اللاجئ الفلسطيني من استملاك مسكن، مقابل إباحته لسائر الأجانب وخصوصاً الخليجيين منهم الدخول في المضاربة العقارية، إضافةً إلى قانون البناء الذي صدر في العام 2004 ليسخى على المطورين العقاريين بالحوافز والتسهيلات، وذلك بالطبع في ظلّ غياب قانون إيجارات عادل. اجتمعت هذه السياسات جميعها ضدّ مصلحة المواطن اللبناني وتحديداً حقّه في سقفٍ يأويه. وهو ما يشكّل ركيزة العيش الكريم، المستقرّ والآمن. عليه، أضحى سعر إيجار غرفة في بيروت يضاهي الحدّ الأدنى الأجور. وهذا بالرغم من غياب الخدمات الأساسية التي يفترض بالدولة تقديمها، كالكهرباء والمياه ووسائل النقل العام.
في المحصلة، يمكن الخلوص إلى أن السكن هو جزء من الأزمة الاقتصادية والمالية الأشمل، وهو بالتالي وليد منظومة اقتصادية كاملة قائمة على انتفاع الأقلية على حساب المجتمع ككلّ. ومن هنا، أبدى عدد من الحاضرين في جلسة النقاش اعتراضهم على ما اعتبروه "حديث في العموميات من دون استهداف أسماءٍ محدّدة هي المسؤولة عن هذه الأزمة"، مطالبين بمعرفة من المسؤول. فأجابت فواز "كلّن يعني كلّن مسؤولين، أي كل الحكومات والنواب الذين تعاقبوا منذ التسعينات، وتواطؤوا جميعاً في سنّ وتنفيذ القوانين والسياسات غير العادلة. هو نهج بدأ مع الحريرية الاقتصادية وتجاوزها".
لماذا لا نحتلها؟
وقد كان من ضمن مشاركات الحاضرين مداخلة لأحد أعضاء لجنة الدفاع عن حقوق المستأجرين القدامى، الذي أطلق صرخة ضدّ قانون الإيجارات القديمة الملقّب بالقانون "الأسود" والذي يهدّد بتهجير وإقصاء ما تبقى من الطبقات المتوسطة والفقيرة عن العاصمة. في المقابل، لفتت إحدى المشاركات إلى معاناة معظم اللبنانيين من أجل تأمين إيجار شقة أو مستحقات قرض سكني، في مقابل "خلو معظم مباني سوليدير التي تحيطنا هنا في الوسط من السكان" متساءلةً "لماذا لا نحتلّها؟".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها