الثلاثاء 2024/09/17

آخر تحديث: 12:35 (بيروت)

شوقي بزيع: الياس خوري الصاخب كعاصفة والمسكون بعشق فلسطين

الثلاثاء 2024/09/17
شوقي بزيع: الياس خوري الصاخب كعاصفة والمسكون بعشق فلسطين
increase حجم الخط decrease
لعل أصعب الكلمات وأشدها وطأة على النفس، هي تلك نضطر الى قولها على مسافة لحظات قليلة من رحيل من نحبهم، وقبل أن نرافق جثامينهم الى مثواها الأخير. فكيف إذا تعلق الأمر برحيل كاتب متميز ومتعدد الهويات الابداعية من وزن الياس خوري، الذي لا يليق بوطأة رحيله سوى الصمت أو الذهول. صحيح أن الوتيرة المتصاعدة للحروب والكوارث، وآخرها ما يجري في غزة والضفة والجنوب اللبناني، قد أكسبت الموت ألفة لم تكن له، وجعلته يرافقنا كالظل في حركاتنا وسكناتنا وتفاصيل عيشنا اليومي، ولكن الياس خوري لم يكن طرازاً عادياً من الكتاب، لكي نسلم المساحة الشاغرة التي تركها خلفه الى التجاهل أو النسيان.

منذ زاملته على مقاعد الدراسة في الجامعة اللبنانية، أوائل سبعينيات القرن المنصرم، لم يُقدر لي أبداً أن أرى الياس خوري متلبساً بحالة هدوء أو استكانة. فقد كان مزيجاً صاخباً من الحب والتأمل والتمرد والسخط والتربص والغليان والصخب والاعتراض على كل شيء، حتى ليحسبه زملاؤه وعارفوه، أقرب الى العاصفة التي تسير على قدمين، منه الى أي شيء آخر. وحيث لم تكن أعراض الموهبة الروائية والنقدية قد بدت بعد في نصوصه وأوراقه، فقد راح الياس يستعين بملامحه المجردة وحركات يديه وجسده العصبي لكي يبعث برسائل احتجاجه المتلاحقة الى العالم.

ولأن فلسطين كانت ماثلة في قلب الياس وعقله وشرايينه، سرعان ما انتبه محمود درويش، الذي كان انتقل آنذاك للعيش في بيروت، الى ما يختزنه صاحب "الجبل الصغير" في داخله من نزوع ثوري وطاقات مختزنة، فاختار أن يكون الى جانبه في تحرير مجلة "شؤون فلسطينية" التي عملت على نقل فلسطين من عهدة الانشاء الرومنسي الى عهدة الانتصار للذاكرة الجمعية، والتنقيب الرصين عن الحقيقة الموثقة بالبراهين.

لكن مفاجآت الياس خوري الأكثر إدهاشاً كانت تطل من جهة السرد الروائي على وجه الخصوص. فهو وإن تفاعل بقوة مع قضايا السياسة والمقاومة والدفاع عن القضايا الكيرى، وفي طليعتها قضايا لبنان وفلسطين والعالم العربي، إلا أنه رفض الاتكاء على موضوعه، أو تحويل السياسة الى رافعة للرداءة الفنية والأسلوبية، كما فعل كثر آخرون من الروائيين والشعراء والفنانين. وحيث كان من الطبيعي أن لا يأنس الياس الى تكرار نفسه، وهو المبدع الجامح الذي يكتب بجماع أعصابه، فقد بدت رواياته كما لو أن كل واحدة منها منبتة عن الأخرى، ومنتمية الى أسلوب مغاير ومقاربة مختلفة. هكذا بدت الفروق شاسعة بين "الوجوه البيضاء" وبين "مجمع الأسرار"، أو بين "رحلة غاندي الصغير" و"مملكة الغرباء"، أو بين "كأنها نائمة" و"باب الشمس".

وقد يكون إدوارد سعيد الذي اعتبر في مقالته الشهيرة "وداعاً نجيب محفوظ " بأن رواية محفوظ قد بلغت محطتها الأخيرة، وأن راية السرد الجديد هي في عهدة جيل الوراثة الذي يتصدره خوري، قد أضاف الى رصيد الياس قيمة مضافة الى تلك التي منحها له صديقه الآخر محمود درويش، إلا أن الرصيد الأثمن لصاحب "رائحة الصابون" هو ذلك الذي استحقه بموهبته العالية وثرائه المعرفي، وإنصاته العميق الى آلام المحرومين من أبسط حقوقهم، والمبثوثين في ضواحي المدن والأزقة المهملة ومخيمات اللجوء.

لقد عرف الياس كيف يصغي بأناة الى حكايا البشر المنسيين، وكيف يصنع من سيرهم وقصاصات عيشهم أساطير وقصصا وملاحمً، مغايرة تماماً لتلك التي تركها لنا الإغريق وكتاب الملاحم المعروفون. والفلسطينيون الذين قرروا تكريماً له، تحويل روايته "باب الشمس" الى قرية حقيقية وبيوت صالحة للسكن، بدوا وكأنهم يقدمون له النص الأجمل الذي لم يهتد النقاد الى كتابته، حيث اللغة والفن ليسا بديل الحياة، بل هما الحياة نفسها في صورة معدلة.
كم الحياة موحشة في غيابك يا صديقي الياس. ومع ذلك فإن ما يخفف من عبء هذا الغياب الثقيل، أن ما سيظل من لغتك في ذاكرتنا، ومن صمتك الصاخب في أسماعنا، ومن حضورك الساحر في قلوبنا، هو أكثر بكثير مما ستحمله معك الى القبر.

(*) مدونة نشرها الشاعر شوقي بزيع في صفحته الفايسبوكية
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها