الثلاثاء 2024/08/06

آخر تحديث: 13:30 (بيروت)

محمد حافظ رجب: جولة ميم غير المملة...غير المكتملة

الثلاثاء 2024/08/06
محمد حافظ رجب: جولة ميم غير المملة...غير المكتملة
محمد حافظ رجب يطالع أعماله الكاملة مع المخرجة هند بكر
increase حجم الخط decrease
ثمة فنان متجاوز، وآخر محدود، ولم يكن القاص المصري محمد حافظ رجب أيًا من النوعَين، أو هكذا قرأته وشاهدت الفيلم الوثائقي عن حياته.

هناك دائمًا شيء إشكالي في تجربة محمد حافظ رجب، وصراحة، أغبط من يستطيع تصنيفها، ببال مرتاح، كتجربة فارقة أو متأخرة.

شخصيًا لا أميل إلى مجموعته القصصية الأشهر: "الكرة ورأس الرجل"، ولا أعدها تجديدًا أو عتبة اجتازت من بعدها القصة المصرية بدائيتها إلى التطور، لأنها نصف رحلة، قفزة بين ضفتين، من دون الاضطرار إلى عبور الجسر المتهدم بينهما. صراعه في خارجه، في حين تحمل الكتب المؤسِّسة معركتها داخلها؛ لا تحتاج "قنديل أم هاشم"، مثلًا، إلى دراسة السياق الذي أفرزها لكي يستوعب القارئ سؤالها الوجودي، أما "الكرة ورأس الرجل" فتفقد معناها كله بلا صرخة صاحبها.

هل كان محمد حافظ رجب أسطورة صنعها الذين يستمدون قيمتهم من التباكي على أصحاب التجارب المجهضة، ونفخ فيها أبناء الأقاليم المشغولون بالبحث عن فرصة للقصاص من مركزية العاصمة؟

كنت لأجيب عن هذا السؤال بسهولة، لو استطعت تخطي مجموعته القصصية "غرباء"، التي تكشف نصوصها عن سارد حساس يمتلك أدوات ربما افتقر إليها مجايلوه والسابقون عليه.

لا يقين في أي مما يخص تجربة محمد حافظ رجب، هناك نقصان لا يكمله ما خاضه من حياة خارج الكتابة. على العكس تشبه سيرته الذاتية نصه: ناقصة. وعندما جاءته الفرصة للحديث، لمرة أخيرة، من خلال الفيلم الوثائقي "جولة ميم المملة"، قرر بوعي كامل ألا يحيد عمّا كتبه، أن يترك المجال مفتوحًا أمام المتلقي، يؤوله، مهما اجتهد، من دون الوصول إلى يقين.

سيرة العامل الفنان
كان محمد حافظ رجب الذي اكتفى من التعليم بالشهادة الابتدائية، بائع لبّ (بذار السلوى) في محطة الرمل بوسط الإسكندرية، ولأنه يلف بضاعته في الأوراق القديمة، ولأنه يفرشها أمام السينما، لم يملك تسرية خلال ساعات العمل الطويلة غير القراءة، وفسحة غير دخول السينما. وفي سن السابعة عشرة، راسل الصحف في القاهرة، وصنع وأصدقاؤه الموهوبون من العاملين حوله في الميدان، رابطة أطلقوا عليها اسم "الرابطة الثقافية للأدباء بالقطر المصري" صار سكرتيرها العام، ثم نزل إلى القاهرة تسبقه إليها سمعة "العامل الفنان"، شأنه في ذلك شأن مبدعي الجمهورية الجديدة، الذين التصقت بهم وظائفهم القديمة دلالة على انتمائهم الطبقي، والفرصة التي أتاحتها دولة يوليو أمام الفقراء للترقي الاجتماعي والوظيفي. لكنه لم يأت إلى العاصمة كأعجوبة تبحث عن الاعتراف بفرادتها، كان يعي جيدًا قدر نفسه ويمتلئ بغرور يصعد به عنان السماء ويجعله قاعداً فوق "أطرطر عليكم وأنتم قاعدين تحت"، ويدفع به لأن يقول أمام خمسين أديباً وفناناً حضروا ندوة نجيب محفوظ العام 1963، إنه وجيله "بلا أساتذة"، ثم يختفي لفترة طويلة، عشرين سنة أو يزيد، حتى إذا عاد بعدها لا يجد من يتذكره أو يهتم به.

دون كيخوته
الشائع عن صاحب "مخلوقات براد الشاي المغلي"، اضطهاده منهجياً حتى عاد إلى بلده معتزلًا الكتابة، بعدما أثبت تميز تجربته التي "تسبق زمانها"، بوصف يحيى حقي أحد أبرز داعميه والذي قال: "الذين يرفضون قصصك اليوم؛ إنهم يعيشون في زمانهم". لكن سردية أخرى تتكشف من خلال تتبع منجزه الأدبي الذي يأتي في أكثر من 1300 صفحة من القطع الطويل!

في "جولة ميم المملة"، يؤكد محمد حافظ رجب أن جملته الشهيرة تمخضت عن قناعة تقاسمها وأبناء جيله من كتّاب الستينيات، لكنه خاض معركة الاصطدام بشيوخ الأدب خلال العامين 1963 و1964، وحده، بلا مؤازرة أي من أبناء جيله.

هل رحل رجب لأن القاهرة خذلته؟ يقول إبراهيم أصلان في "خلوة الغلبان"، إن أزمة صديقه بدأت عندما مات أبوه فبات يؤمن بأنه السبب في كمده، لأنه فضل الانتقال إلى القاهرة على عرضه أن يعاونه في مطعمه للفول والطعمية، وذلك بعدما استدعاه يوسف السباعي للعمل سكرتيرًا للجنة القصة في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية. ثم يشير في موضع آخر من مقاله إلى أن السبب في مغادرته القاهرة أن الأخيرة "تجاهلته" بعدما "استدعته فاتحة ذراعيها، فتبدد السحر، وكشر الواقع عن جهامته القاسية".



غير أن صاحب "طارق ليل الظلمات" يعزو الأمر كله إلى القدر، الذي يعاقبه على "ذنب كبير" اقترفه من دون أن يصرح به. يقول في قصة "حكاية حياة.. امتطاء نعال السباق الجامح"، وهي من النصوص غير المنشورة التي ضمتها أعماله الكاملة الصادرة عن دار العين بالقاهرة، إنه "في مسجد السيدة (زينب) يزحف. يتلوى على بطنه يتحرك. يتناول الفتات من مشايخ حوله. يدخل الداخل يسمع مَن يقول له: "ح أعجبك. ح أعجبك". يتغير المسار، لا فائدة من الوجود في العاصمة. ما دام هنا مثل هناك. تسنى له أن يعيش غرائبية المنظور واللا منظور". وعندما يسأله أحمد عبد الجبار (أحد شعراء الإسكندرية) في الفيلم الوثائقي عن سبب توقفه عن الكتابة، يقول: "ده قدر ربنا"، فيعود ليسأله: "وأنت مش زعلان"؟ فيجيب: "زعلان". فيستفسر بسؤال أخير: "متقبله"؟ ليرد رجب: "لأ".

الإخلاص للنص.. للصرخة
رغم ذلك لم يغادر رجب بعد خذلان الأصدقاء في المعركة عقب صرخته الشهيرة، بل ظل بعد إطلاقها مقيماً في القاهرة ثماني سنوات، أصدر خلالها كتابيه الأوّلين دفعة واحدة في العام 1968، قبل أن يعود إلى الإسكندرية العام 1972، حيث لم يتوقف عن الكتابة، وإنما عن النشر، مؤقتًا، فأصدر كتابه الثالث في العام 1979، ثم عاد إلى النشر مرة أخرى في 1992، ليصدر خلال تسع سنوات تالية، ستة كتب لم يلفت أي منها النظر مثلما فعلت "الكرة ورأس الرجل".

عندما وقف في وجه نجيب محفوظ، كان رجب يعترض على وصفه بأنه "سريالي في زمن واقعي"، ولم يكن صاحب "حماصة وقهقهات الحمير الذكية"، سريالياً أو دادائياً، وإنما كان يكتب ما يمكن تسميته اليوم بنص الشيزوفرينيا. فبطله المتنقل بين المشاهد "الفانتازية" التي تقتحم واقعه، يشبه مريضًا يصارع الضلالات، فيمر بسفينة تعبر الشارع، وتُلعب برأسه الكرة؛ كان يكتب سيرته الذاتية، ليس كصراع وجودي، وإنما كمواقف يسخر منها بعد أن يعيد تصويرها وفق تلك الذهنية المصابة بالفصام.


يقول في "جولة ميم المملة": "عرف ميم أن الروائي الكبير (نون) يجلس في كازينو (...) وحوله كثيرون من الشباب، فاتخذ طريقه إلى هناك، وغض من طرفه وهو يراهم ملتفين حول الروائي مبهورين، يحتفون بكل جديد قادم نحوهم. دخل (ميم) واندس بينهم، ودقق النظر إلى الروائي، فوجده محتشداً بالسرور العام، وقهقهاته تخرج من الأعماق مباشرة، فحاول أن يدخل في جوف أحدهم، ويقهقه معه من الباطن، نوع من المساعدة، لكن الشخص الذي يجاوره رفض عرضه بأدب. فجأة رأى (ميم) المأزق يدخل عليه مبتسماً، عازماً على أخذه معه، صار عليه الآن يقاوم الشيء اللعين بالشيء اللعين. قام واستأذن من الروائي الذي استمع إليه في أدب جم واضعاً يده على أذنه ليظل بابها موارباً، ثم أزاح (ميم) أكواب الشاي، والزجاجات المتناثرة فوق الطاولة، وقفز فوقها وأشار إلى الجميع: اضبطوا الوحدة من فضلكم، هكذا: ترم، ترم، ترم، تشا، تشا، تشا، طاخ، طيخ، طاخ".

هل يبصر الملاحظُ من يصارعهم مريض الفصام؟ هل يفهم أسباب علته أم يرى ظاهرها فقط؟ هل تغير تكنيك البطل مصارع الهلاوس؟ هل تجاوزت كتابة رجب اللاحقة نص "الكرة"؟ ظل رجب في نص "قباطنة السفن الأفذاذ" (وهي مجموعة متأخرة لم تنشر وصدرت ضمن الأعمال الكاملة) يصارع بطريقة الفصام ذاتها العاملين في مكتب إصدار البطاقات التموينية.
إذن، لماذا يبدو السؤال عن قيمته صعب الإجابة؟
لأنه يملك أدوات الأدب غير أنه أكثر إخلاصًا للموقف!

في نهاية العام 2009، صدر عدد من مجلة "الثقافة الجديدة" يواكب الدورة الأولى والوحيدة لمؤتمر القصة في مصر، ويلقي الضوء على "مجدّد القصة القصيرة" محمد حافظ رجب، وفيه تسأله المحررة عن ترشيحه لجائزة المؤتمر، فيجيب: "هذه ضجة بالونية خبيثة ادّعت وأشاعت أني مرشح للحصول على هذه الجائزة، ونافسني في الحصول عليها زكريا تامر السوري، وأنا في داخلي لست حريصاً على نيل هذه الجائزة، فأنا مَن علّم يوسف إدريس أن يكتب القصة الجديدة، لا الواقعية الخاصة، ودفعته لاهثاً لأن يكتب مسرحيته "الفرافير"، كما دفعت كل الكتّاب لأن يكتبوا الجديد، حتى معبودهم نجيب محفوظ، تدخلت كتاباتي في حياته مثل "ثرثرة فوق النيل"، وغيرها، وقد اعترف بذلك محمد جبريل في جريدة المساء، وقال: لم يكن نجيب محفوظ ليكتب ثرثرة فوق النيل، إلا بعدما قرأ جيدًا، قصص محمد حافظ رجب".

نشرت جريدة "الشروق" الحوار نفسه بعد فترة قصيرة من "الثقافة الجديدة"، لكنها ألحقته باستطلاع رأي تحدث فيه إبراهيم أصلان ويوسف القعيد ومحمد جبريل، الذين تنصلوا جميعًا من التأثر به ومن تأثيره في نجيب محفوظ أو إدريس. وعندما سألته هند بكر في فيلمها عن عبارته الشهيرة، قال: كنت أقصد من ورائها أن أقول، إننا كنا على قدم المساواة وكان التأثير متبادلًا بيننا "كان بيننا أخذ ورد". بيد أن إبراهيم أصلان عرّف صاحبه في "خلوة الغبان" بأنه "من نُسبت إليه تلك الصيحة الشهيرة: نحن جيل بلا أساتذة... والتي اتخذت علامة على جيل كامل من الكتّاب، بينما كان قائلها الحقيقي هو الناقد سيد خميس".

هل كان إبراهيم أصلان يبتغي إسناد الفضل لصاحبه؟ هل كان يجرّد رجب من صيحته/ علامته؟

في "جولة ميم المملة" يقرأ محمد حافظ رجب، نص خطاب أرسله إلى إبراهيم أصلان، يقول: "إبراهيم أيها الوغد، أردت أن أراك، أقتلك". فتصحح له هند بكر "أقبلك"، فيعيد القراءة "أقتلك"، فتتدخل ثانية بالتصحيح، لكنه يظل يقرأها "أقتلك" حتى تكف عن محاولاتها لتصويبه.
استغرق فيلم المخرجة السكندرية 6 سنوات كاملة، فهل جعلته تلك المدة يعيد تصور علاقته الملتبسة بأبناء جيله؟ قناعاته؟ هل قال شيئاً غير الذي ما سبق وخطّه في "حكاية حياة.. امتطاء نعال السباق الجامح"؟

تؤكد هند بكر أن رجب "كان مدركاً تماماً لما يجري، وكان بيبوظ كل شيء مهم، لما يحس إنه أتكلم أو صرح أكثر، يرفع ايده مثلاً قصاد العدسة أو يعمل أي حاجة تبوظ اللقطة".

مسكين الإقامة
يقول نصر حامد أبو زيد، إن الإجابة دائمًا أسهل من السؤال، لكنها تبدو على العكس تمامًا في حالة محمد حافظ رجب الذي ظل منذ العام 1992، حتى مات، لا يغادر بيته الضيق إلا نادرًا، بينما يدوّن في عقله قصة حياته من دون أن يعبر عنها، ويطرح على لغته سؤاله الوجودي "ماذا فعلت الكلمات هذه؟ تاه، اغترب، عبثت به الأيام، صار إنسان الهباء، صار المتوحش، الذئب، الحيوان، مسكين الأحلام، مسكين الإقامة في المكان، مسكين الإقامة في الحياة".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها