الخميس 2024/08/29

آخر تحديث: 12:17 (بيروت)

خريطة طريق لملاحقة أغنية إلى الرقة

الخميس 2024/08/29
خريطة طريق لملاحقة أغنية إلى الرقة
هي قصيدة من البادية إذاً، من البادية تماماً
increase حجم الخط decrease
كمَن يبحث عن منشأ أسلافه، ليثبت لأهل امرأة يحبها شيئاً ما، تتبّعتُ الأغنية. لاحقتها في الزواريب وقنوات "يوتيوب"، تربّصت في محادثات "واتسآب" و"بوتيم". شاهدت تعليلة لمؤيد العجيلي (من العجيل) يصوّب بيتاً منها نقلاً عن خالته، وتيك توك لعيّاش الفاعوري (من الفواعرة) يُضمّن شطراً منها في بيتٍ له. سألت عنها محمد الجبوري (من الجبور) وموسى الحسن (من الوَلدة)، د. باسم قاسم (من كراد الغول) وفواز الحسن (من البدو) وعدنان الجربا (من شمر) وموج البحر وفيروز الشطآن من قارئة الفنجان.

أردت أولاً تذوق لذّة أن تكون محقاً، فقد قلت حين سمعت الأغنية أوّلَ مرة: هذه قصيدة كتبَتها امرأة.

لعلي كنت محقاً، إذ لا يمكن لقصيدة أن تكون نقية تماماً من الحذلقة، ما لم تكن ناجية تماماً من تبجّح الصبيان. لكن تبريري "المتحذلق المتبجح" بدوره لا يكفي لإثبات شيء أو إقناع أحد. فلأفتش وراءها إذاً.

تبدأ الأغنية بلازمة تشي بغرضها، فهي من أغاني النعي (الكَول): 
ألوان يا عشب الربيع الواني        السن يضحك والقلب حزناني 
كُلْمِن سِقاه البين فنجان قهوة       وآني من اثم الجود لُمْنْ رواني 

هي قصيدة من البادية إذاً، من البادية تماماً، من قالها لا يعرف سوى البادية، فهناك نرى الأزهار الملونة على رؤوس العشب، قصيرة العمر، قصيرة القامة. لا أشجار كاللوز والأكاسيا، لا شجيرات كالورد والياسمين. من البادية لأن فيها حزن البدو العميق والنهائي، حزن من يدفنون موتاهم ثم يرحلون. لا يعرفون لموتاهم قبوراً يزورونها ويمدّدون الحزن عند شاهداتها. يلقون به مرة واحدة، كثيفاً، حارقاً، مرّاً، فيما الجثة ما زالت حارّة.

في البيت الثاني تُقرّ (قلت تقرّ؟ أحاول تمرير نظريتي بأنها امرأة) بأن البَين (الفراق، الشؤم، المصائب) يصيب الجميع، لكنها تشكو من نقص عدالة القدر، لأنه سقى كل شخص مقدار فنجان قهوة من المصائب، بينما سقاها من فم الجود/القربة حتى الارتواء.

وهذا هو البيت الذي سمعت تصويباً له نقلاً عن امرأة أخرى من العجيل، إذ قالت لابن أختها مؤيد: لا لا لا تخيس الحجي (لا تخرب الكلام) من اثم الجود، يعني شربت برضاها من فم الجود. يجب أن تكون "على اثم الجود" لأنها شربت غصباً. شربت علاً ولم تشرب نهلاً. 
تدوّر بيتين آخرين في الفكرة ذاتها: 

كُلْمِنْ خِذَلْهَا البين صغيّر بالمهد         واني خذالي مكتّف الدرعاني 
(كل واحدة اخذ لها البَين طفلاً وليداً، لكنّه أخذ مني شاباً بكتفين ملفوفين بذراعين شديدتين) 
كُلْمِنْ خذلها البين صغير بالمهد        وآني خذالي ديب أبو السرحاني 
(كل واحدة أخذ منها الموت طفلاً، وأنا اخذ مني رجلاً شجاعاً كالذئب، والذئب عند العرب أبو السرحان). 

في الأبيات التالية تهدد أعضاء جسمها، وتحذرها من العقاب الذي سينزل بها إن حلمت بأي شيء مما يفعله البشر الطبيعيون: 

إن جاد يا سنوني تريدين الضحك       لاحدف عليجا من حجر صواني 
(إن كان رغبت يا أسناني بإظهار نفسك في ضحكة، لألقين عليك من أحجار الصوان)

وإن جاد يا عيوني تدورين الكحل       لكحّلك بمرود العمياني 
وان جاد يا راسي تريدين المشط        لمشطك بمشيط للكجلاني 

وكلمة الكجلان استحقت مني يوماً من التقصّي، لأجد فيها حكاية جميلة، فالأكجل من يصيبه صلع متفرق ومبكر، أو يصاب بالثعلبة. وقد أطلق أهل دير الزور على حي عمر بن العاص (بين سينما فؤاد ودوار التموين) اسم حي الكجلان، لأن صبيانهم مشهورون بالشقاوة وكثرة الشجار بين بعضهم ومع الحارات الأخرى. فتكون رؤوسهم دائماً مبقعة، بسبب فجّها بالحجارة، وحلاقة ما حول جروحها. والتصاق الشعر المتبقي بالدم المتخثّر. ومشط الكجلان مرتبط بالألم. 

في البيتين التاليين تثبت القصيدة مجدداً أنها لامرأة، لم يمنعها المصاب من الانتباه لامرأة أخرى من القبيلة جاءت تبكي فيما وضعت فوق ثوبها حزاماً أحمرَ. والأرجح أنها كنّة غريبة فضّلها ابن القبيلة على ابنة عمه التي ستستره وتجلب له الثناء إلى يوم القيامة. 

ما ادري صدقتي أو كذبتي بحزنهم         ما دري صبغتي محزمك رجواني 
خلي الغريبة تروح تاخدلها رجل           بْنَيْت عمي للحشر تثناني 

ثم في الأبيات الثلاثة التالية تمرر شيئاً من الذكورة، لكنه لا يكفي لنفي أنوثة القصيدة كلها، ففيها تفاخر بكرم القبيلة، واستعدادها لاستقبال الضيوف المعزين، رغم حجم مصابها: 

شُوْفْ عيني مددوهن ع الضحى   اربعطش ناقة ما عدا الحيراني 
(رأيت بعيني أربع عشرة ناقة مددوها في الضحى لغداء الضيوف ما عدا الجمال الصغيرة، جمع حَوَار) 

شوف عيني مددوهن ع الضحى    قطف العجل الما بها رجواني 
(مددوا النوق، وذبحوها قطفاً عاجلاً، مخافة ان يترجاهم أحد من الضيوف أن توقفوا) 

شوف عيني مددوهن ع الضحى      حِيْل الغنم الما بها خرفاني 
(رأيت بعيني كيف مددوها للذبح، يا حسرة على قطيع الغنم التي لم يبق فيها خراف، كناية عن أنهم ذبحوها كلها) 

ثم تتمنى لو أنها طائر هدهد يستطيع التسلل إلى قبور الموتى ليخبرهم بما جرى، لعل شواربهم تنتفض تمرداً على التراب والموت: 

يا ريتني هدهد واخش قبورهم         تنفض شواربهم على الترباني 
ثم تتغير قافية القصيدة لتدس فيها بعض الحسرات على الولي (السيد)، ثم تنخي العشائر الأخرى (الدليم والجبور وعجيل..) لتصطف بجانبهم في معركة الثأر: 

ويلي ع الولي ويلاه      هيرني ما رحت معاه
ويلي ع الولي منعوت    نريده ما نريد بيوت
(منعوت: موصوف، أي أن خصاله معروفة وشائعة) 

نريده لشيلة التابوت       يمشي والخلق وياه 
(نخبئه ليحمل نعشنا وتسير البشر معه) 

ويلي ع الولي ما اقدر    من ورجٍي سقط خنجر 
(ورجي: وركي. أي أن الولي القتيل كان خنجراً على خصري وسقط) 

عالواي الولي تذكر      بامي والصديق انخاه 
(واه التفجع تذكر عليه، لأنه يستحقها) 
 
لاقعدلو بسد الغيم اشكيلو يا ضيم الضيم 
(ساجلس قرب الغيم لأشكو له ظلم الظلم) 

ع لوانو قضيب دليم بامي والصديق انخاه
(على ألوانه ـ أي عشب الربيع ـ سارية علم الدليم، الذي سأنشده بامي والصديق) 
لاقعدلو بسد السور ويلي ع الولي مكسور 
ع لوانو قضيب جبور بامي والصديق انخاه 

حين بدأتُ البحث خلف الأغنية، عثرت أولاً على تسجيل لجزء منها باسم "مرثية الرقة"، وكُتب عليه اسم الشاعر الراحل شلاش الحسن، والملحن فواز الحسن. ثم عثرت على تسجيل آخر في صفحة إسماعيل الكدي الخلف، كتب عليه: من أغاني مسرحية "العارفة" من تأليفي وإخراج عمار العلي وألحان فواز الحسن. وهي المسرحية التي قدمتها فرقة أطفال بالرقة في 2007. وتبين ان الكدي مؤلف المسرحية ولذلك ينسب البعض له القصيدة خطأً، وهو ما لم يدّعِه.

(الأغنية بصوت بنات العساف: رنيم، إسراء، ربا، صبا)

ثم عثرت على تسجيل أقدم لأبيات أخرى، وعليه: قصيدة لزريفة الجارح قيلت يوم مقتل أربعة من أخوتها وأبناء عمومتها في ذبحة الولدة.
وذبحة الولدة حادثة معروفة في تاريخ المنطقة الشرقية، وقعت العام 1938، إثر تدخل القوات الفرنسية في المعركة الدائرة بين الوَلْدة والبدو.

صرت قريباً إذاً، بضع خطوات وأشخاص آخرين، وسيأتيني التأكيد من موسى الحسن: أجل هي لحبابتنا "جدّتنا" زريفة الجارح الملا عيسى من الناصر من الوَلدة. وقد قالتها يوم ألقوا بأربعة رجال من الناصر جثثاً سابحة بدمائها.

ثم عرفت أن فواز الحسن ألّف لحناً جديداً للأغنية، وشلاش الحسن أضاف بيتين إليها في العام 2012 بعدما وصلت الحرب إلى الرقة: 

وان جاد يا عشب الربيع تلمهم لانصب عليجا خيمة السلطاني 
وان جاد يا عشب الربيع ما تلمهم لادعي عليجا من لهب نيراني 

أرجّح أنّ خريطة الطريق هذه قد فُهمت خطأً على أنها دليل لاكتشاف الأغاني المجهولة وشرحها.

أما ما أقصده في الحقيقة فهو خريطة طريق لإحدى أدوات البقاء في البلاد المنكوبة. فما الذي سيمنع شخصاً يعيش في سوريا أو لبنان أو العراق، من الصعود إلى جسر وإلقاء نفسه من هناك؟ أو ما الذي سيمنع شرياناً ذاهباً إلى دماغه من الانفجار عند أدنى تفكير بالمستقبل؟ 
ستفيد أشياء من هذا القبيل، أعثر على أغنية لا يعرفها أحد، مبنى قديم، حجر مكسور، عشبة نادرة، تعويذة، هاون نحاسي، نسب عائلة... المهم، اعثر على شيء فيه حكاية، أقنع نفسك ـ كما فعلت الآن ـ أنها مهمة، والحق بها. 

صدقني، البحث خلف قائل "وآني على اثم الجود لمن رواني"، أهون بكثير من شرب جود البين ذاته. هذا النوع من الوهم أكثر فعالية بكثير من وهم الأمل بالمستقبل. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها