الخميس 2024/08/15

آخر تحديث: 12:11 (بيروت)

طوق الحمامة وصراع حضارات وتغريدة

الخميس 2024/08/15
طوق الحمامة وصراع حضارات وتغريدة
نحن البشر لدينا فكرة، خطرت أولاً لصاموئيل هنتنعتون فكتبها بتسعة آلاف كلمة
increase حجم الخط decrease
ظنَّ القرن العشرين نفسَه عصرَ السرعة، كرر اللقب، وجعله مفخرته المفضّلة. لا مشكلة في أن غالبية المرات التي ذُكر فيها بتلك الصفة، كانت تحمل ملامح الحسرة والتفجّع على زمن الإنسانية البطيء الجميل، لكنّ مضمونها العميق كان التفاخر.

التفاخر بالسيارات وبالطائرات، بشاشات البورصة، بالصحافة، بمتوسط عمر الزيجات، بقطعة اللحم المحشورة بين خبزتين، بالإيميل، بصعود الشيوعية وسقوطها، بعدد صفحات أطروحة إينشتاين، بمقال "صراع الحضارات" لصاموئيل هنتنغتون.

وفن المقال هو إحدى سمات القرن العشرين، لأنهما (القرن والمقال) مرحلة وسيطة بين الرسالة والبوست.

صحيح أن السرعة التي فاخَر بها القرن العشرين تبدو مضحكة وسلحفاتية اليوم، لكن مقال فوكوياما "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، ورد صاموئيل هنتنغتون عليه بمقال "صراع الحضارات" شغلا العالم لسنوات، قبل أن يتحولا كتابين بحَجمين ينتميان إلى قرون سابقة، يتناقلهما الناس اليوم بجُمل قصيرة مقتضبة تنتمي إلى القرن اللاحق. وكلا المقالين يثبت من دون لبس أنك في العصر الجديد، وأن فكرة كبرى بهذا الحجم يمكن قولها ببضع صفحات، كما يمكن قولها بمئات الصفحات. أو كما يحدث اليوم في "فايسبوك" و"إكس"، يمكنك أن تلخصها كبديهية يعرفها الجميع: يا أخي لمَ تستغرب؟ إن الحضارات تتصارع.


إذاً، نحن البشر لدينا فكرة، خطرت أولاً لهنتنعتون فكتبها بتسعة آلاف كلمة، فشغلت الحكومات ومراكز الأبحاث في العالم كله، فجمع الردود والنقاشات وأعاد شرح فكرته بـ132 ألف كلمة، وسلّمها للجيل الجديد الذي أعاد قولها بسبع كلمات.

تقلبات من هذا النوع، تعيدني إلى أزمنة أكثر رحابة، أزمنة كان يمكن فيها لرجل يمشي في البصرة أن يقول لرجل قابله في الطريق: يا أبا عثمان، سمعت قوله تعالى من سورة طه {وما تلك بيمينك يا موسى، قال هي عصاي أتوكّأ عليها وأهشّ بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى}... ما هي المآرب الأخرى أجادك الله؟

يعود أبو عثمان الجاحظ إلى بيته، ويجيب على سؤال الرجل بخمسين صفحة، سمّاها "كتاب العصا" وجعلها الباب الثالث من "البيان والتبيّن".

نحن أبناء المرحلة الوسيطة، مرحلة المقال وعصره. اطلعنا على رسائل عصر الرسائل، بحكم مناهج التعليم، وتأثير الأساتذة من جيل أقدم، واستشهادات وإشارات كتّاب المقالات. ويواكب بعضنا بوستات عصر البوستات، بحُكم الرغبة في مقاومة الشيخوخة، عبر السير في ركب الجيل الجديد. لذلك تبدو الفوارق أمامنا شديدة الوضوح والحدّة.

نتفرّس في إنفوغرافيك لتوزع المعادن الثقيلة على اليابسة، ونعرف رسالة جابر ابن حيان في الكيمياء، نشاهد مقاطع فيديو لسيدات مصريات يحشين الفريك بالحمام، ونعرف رسالة محمد بن الكاتب في الطبيخ والمآكل.

وكمحاولة توفيقية أتخيل ما حصل مع ابن حزم الاندلسي بمنطق زمننا هذا. فهو يشبه أن يرسل لك صديق عبر "ماسنجر" رسالة قصيرة جداً تقول: ما هو الحب؟

على بساطتها ووضوحها وقلة عدد كلماتها، ستفتح الرسالة فيك ولك وعليك عشرات الأبواب، لكنك، تهذيباً، ستجيب بشكل سريع: "الحب ـ أعزك لله ـ أوله هَزل وآخره جِد، دقَّت معانيه لجلالتها عن أن تُوصف، فلا تُدرك حقيقتها إلا بالمعاناة، وليس بمُنكَر في الديانة، ولا بمحظور في الشريعة؛ إذ القلوب بيد لله عز وجل".

سيكتب لك صديقك: إمممممممممم.
وستدرك أنه لم يكتفِ بالجواب، وستقول لنفسك: هو محق، لا يمكن الإجابة على سؤال بهذا الاتساع بأداة ضيقة مثل الكلمات، فما بالك ببضع جُمل منها. ستطلب منه بعض الوقت، لترسل له رسالة مطولة فيها جوابك عن تعريف الحب.

بعد Hن تأخذ وقتك كاملاً، وتكتب رسالة من خمسين ألف كلمة، سترسلها له، ثم بعد ذلك سيخطر لك، أن هذه الرسالة لا يجوز أن تبقى بين شخصين، ومن حق الناس أن يطّلعوا عليها. ستستأذن صديقك عبيد الله حفيد الناصر لدين الله. ستضع ورقات الرسالة بين دفتين، وتضع لها عنواناً، وليكن: "طوق الحمامة في الألفة والأُلّاف". وستكتب بوستاً جديداً تحكي فيه قصة الرسالة السؤال، وقصة الرسالة الجواب، وتشير له لتثبت أنك أستأذنته بنشر هذه المحادثة الخاصة على العام، وستكتب عبارة مثل: سألني صديقي @ObaidALlaah_BenAbdoaAlrahman_BenAlmoghira كذا وأجبته هكذا.

وبذلك تكون قد صنعت واحدةً من ذرى النثر في تاريخ لغتنا. فالكتاب الذي مضى على تأليفه ألف عام (تحديداً 1017م) ما زال حديثاً وطازجاً، وما زالت فيه نضارة الحوار المباشر الساخن بين صديقين يتحدثان عن موضوع نضِر.

أتخيل كتاب "الإمتاع والمؤانسة" اجتماعاً عبر "الزووم"، فللكتاب قصة تصلح للحدوث هناك. فبين أبي حيان التوحيدي، والوزير ابي عبد الله العارض، أصدقاء مشتركون، أول من يظهر منهم في خانة الاقتراحات أبو الوفاء المهندس. تعارف الرجلان، وتنادما سبعاً وثلاثين ليلة، صبَّ خلالها أبو حيان درَّ ما يعرفه من الأدب والفكر والظُرف والقصص. ولعل أبا الوفاء (الوسيط بينهما) من بدأ الاجتماع ونسخ رابطه وأرسله، وضغط زر التسجيل. وحسبما نعرف عن تاريخ الكتاب/التسجيل، فقد ظل مختفياً تسعمئة سنة، حتى عثر أحمد زكي باشا، رئيس جامعة القاهرة، على إحدى نسختيه في القصر الصيفي بالإسكندرية. وقد نجت هاتان النسختان من موجة الغضب التي ألمّت بالتوحيدي ودفعته إلى حرق كتبه احتجاجاً على جور الدنيا عليه.

أتخيل كتابَي البخلاء والحيوان للجاحظ، وأخبار الحمقي والمغفلين لابن الجوزي، وكشكول العاملي ومستطرف الأبشيهي وعمدة ابن رشيق، وأغاني أبي الفرج، عبارة عن جروبات يتبادل فيها الأعضاء الطرائف والنوادر والقصائد، ولكل واحدٍ منها "أدمِن" يقبل ويرفض وينسق ويصحح مشاركات الأعضاء، ويبوّبها بطريقة تسهّل على الأعضاء الجدد قراءتها والتمتع بها.

وستُنسى جميعاً في اليوم التالي، كما على الحضارات نسيان أنها تتصارع، وعلى التاريخ الشرود عن أنه ينتهي. فنحن نكاد ننجز ربع القرن الحادي والعشرين. وبدأنا نتعلم السرعة الحقّة، وليست سرعة القرن العشرين الزائفة. فذلك المسكين الذي ظن بنفسه الظنون، غَفِل عن أهم غرض من أغراض السرعة، وهو النسيان.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها