السبت 2024/08/24

آخر تحديث: 14:23 (بيروت)

"قولوا هذا موعدي"...ليمنحكم أنسي الحاج دهشته

السبت 2024/08/24
"قولوا هذا موعدي"...ليمنحكم أنسي الحاج دهشته
قبو دير مار سركيس إهدن
increase حجم الخط decrease
اجتمع محبّو الشّاعر أنسي الحاج، حول سحره وأناقة كلماته وقصائده، في تحيّة إليه تحت عنوان "قولوا هذا موعدي". داخل كنيسة قبو دير مار سركيس إهدن، وعند السّاعة السّادسة من الخميس في 22 آب، وصل قطار الدّهشة الذي يقلّ أنسي. ترجّل بصمت، بطقمه الأسود وقميصه الأبيض، ومشى نحو باب الكنيسة الخشبيّ، مراقباً خطواته الثّابتة والمتباطئة تحطّ قدميه على ورق الشّجر اليابس. دخل إلى الكنيسة وجلس في المقاعد الخلفيّة، وانتظر الحفلة لتبدأ، ليطير بجناحيه ويحطّ فوق الخشبة كملاكٍ حارسٍ لكلمته ومكرّميه وعشّاقه.
 

البداية مع الشاعر فوزي يمّين، متحدّثاً باسم اللّقاء الثقافي في زغرتا الزّاوية، تلا فيها افتتاحيّة قصيدة "ماذا صنعتَ بالذّهب؟ ماذا فعلتَ بالوردة؟" من ديوان الحاج عينه والتي أُخذ منها عنوان اللّقاء. اعتلت بعده المنبر الدّكتورة زهيدة درويش جبّور معرّفةً بتجمّع فيحاؤنا الثّقافي الطّرابلسيّ الهوّيّة والشّماليّ التّوسّع، مؤكّدةً على أن نشاطات التّجمع متنوّعة، تتعدّى الحدود الجغرافيّة لمدينة طرابلس، لتصل إلى الشّمال بكافّة مناطقه. كما أضاءت جبّور أولى شمعات التّحيّة لأنسي قائلةً بثقة "أنسي الحاج شاعر يُقرأ أكثر من أنّه يُسمع". كلمة التّعريف بالشّاعر المُحتفى به ألقاها فوزي يمّين مشدّداً في البداية على تأثّره الشّديد بمجلّة شعر، التي أسّس لها الحاج مع جماعة من الشّعراء "الإخوة" (كما يسمّيهم في إحدى مقابلاته). يمّين الذي انطبعتْ في ذاته الحرّية المجنونة والجامحة بفضل نصوص أولئك الشّعراء الرّؤيّويّة والرّائدة، أكّد أيضاً على أهميّة المجلّة ليس فقط ضمن مجال تجديد الشّعر العربيّ، إنّما أيضاً على إلمامها الشّديد والحثيث بالتّرجمة والنّقد (جلسات الخميس) وفي تغيير نبرة القارئ والكاتب العربيّ، وتحوّل اللّغة من القالب إلى اللّوحة.

وأكمل يمين حديثه عن الحاج موضّحاً غياب مقالاته وقصائده شبه التّام عن المناهج المدرسيّة، وحضورها الخجول والمحدود في تلك الجامعيّة. أكّد أيضاً أن الباب الذي فتحه أنسي الحاج على نفسه بكتابته لقصيدة النّثر، من مقدّمة كتابه الأوّل "لن" سنة 1960 حتّى الأخير "الرّسولة بشَعرها الطّويل حتّى الينابيع" لم يكن مكتوم الأثر عليه ومسالماً معه، إذ إنّه تعرّض في العديد من المواقف للكثير من البلبلة والتّهجّمات حتّى وصلت به الحال إلى السّجن واتّهامه علناً بالهرطقة. وفي موضع آخر عبّر يمّين عن التّحوّلات التي طرأت على شعر وفكر الحاج مردفاً: "كيف يستطيع شاعر بهذه القسوة أن يكون رقيقاً؟ وأن يتخلّى عن الشّر لصالح الحبّ؟".

وفي ختام كلمته، عرض يمّين سيرة لحياة الحاج ومحطّاتها الأساسيّة، أضاء فيها على جوانب منها مجهولة للغالبيّة السّاحقة من محبّي الحاج. حيث شدّد أوّلاً على بدايات الحاج النّقديّة الصّرف في مجلّة شعر، قبل أن يقدم على خطواته الشّعريّة الأولى سنة 1958 أي بعد أكثر من عام على بدء إصدار المجلّة. كما أكّد على حصريّة عمل الشّاعر الرّائد ضمن نطاق قصيدة النّثر مفصّلًا أيضاً أهميّته الكبرى في التّرجمة والاقتباس خصوصاً في ميدان المسرح اللّبناني، حيث عمل على ترجمة جملة من الأعمال المسرحيّة العالميّة، منها لشيكسبير ويونيسكو وبريشت، مُشبِعاً إيّاها بلغة متطوّرة جدّاً نسبةً لذاك العصر وللمسرح إجمالًا.

وبعد كلمة يمّين، عُرض فيلم قصير يجمع العديد من اللّقطات والمقابلات والقراءات الشّعريّة بصوت الحاج نفسه. وقد عمل على تحقيقه المخرج ضومط زخيا الدّويهي بمساعدة المخرجة إيفلين حليس في محترف المصوّر سميح زعتر.

الفيلم بتركيبته السينمائيّة أقرب ما يكون إلى الانطباعيّة منه إلى التّوثيق، ولقطاته المعروضة مربوطةٌ إمّا بصوت أنسي نفسه يقرأ من كتاباته أو بموسيقى مراقفة. لا يحاول الفيلم التّعريف بأنسي الحاج، من الزّاوية الأدبيّة ولا حتّى من الزّاوية الإنسانيّة، فكل ما يبحث عنه هو صورة الحاج المبعثرة بين الذّكريات والأحلام والتّصوّرات. لا راوٍ في الحبكة بأسرها، ربّما لاستحالة مراقبة هذه التّحولات الشّعريّة بعين مجرّدة. لا أحد يقرأ ما يكتبه أنسي ويبقى مجرّداً.

في الجزء الأخير والمنتظر من التّحيّة، قدّم كل من زهيدة درويش جبّور والمسرحي سيمون القندلفت وفوزي يمّين والمخرجة والممثلة ماريا الدّويهي يمين، مجموعة قراءات ممسرحة من الأعمال الشّعريّة كافّة للشاعر أنسي الحاج. تمحورت القراءات حول نتاجه الشّعريّ من "لن" حتّى "الرّسولة بشعرها الطّويل حول الينابيع"، أي قبل أن يطول سكوت أنسي الحاج مدى سنوات الحرب.

عمل على اختيار النّصوص الدّكتور يمّين، هو الذي انكبّ على دراسة أعمال الحاج خلال فترة الماستير والدكتوراه في الجامعة اللّبنانية مصدراً إيّاها في كتاب تحت عنوان "التحولات في شعر أنسي الحاج"، شدّد فيه على تحوّل نظرة الشّاعر إلى نفسه وحبيبته والعالم بأسره، إذ تحوّل عنده الرّفض إلى مصالحة والعنف والعدائيّة إلى رّقة واللّغة المشحونة المضغوطة المتوتّرة إلى لغة غنائيّة فسيحة المدى. هذه التّحولات كانت مركزيّة في مَسْرحة القراءات الشّعريّة، وفي تكوين العمل المسرحيّ أساساً.

إذ إنّه، وبالتّعاون مع مخرجة العمل، الدّكتورة الدّويهي، استطاع القرّاء المؤدّون الأربعة الإضاءة على حالتيّ الحاج: حالته البدائيّة الأولى المشحونة بالعنف والانفعالات القاسية والعدائيّة. والحالة الثّانية، الأقرب إلى البياض، حيث تتموضع في وسط اللّوحة المسرحيّة رقّة الحاج وملائكيّة كلماته وارتفاعه عن الأرض حيث الحبّ لا يأتي إلّا مع الموت.

تخطّى القيّمون على العمل حدود قراءة النّصوص، قراءة شعريّة كلاسيكيّة، حيث تجلّتْ إيقاعات وغنائيّة محدّدة بخيط خفيّ بين التّعابير والكلمات، وعمدوا في العديد من الأحيان إلى تحوير صورة الحاج البدائيّة من العنف إلى الخوف والوحدة، وصورته البيضاء الثّانية، من الرّقة إلى البصيرة ومن الحبّ إلى الخلاص.

ومن اللّحظات المدهشة في ذلك العمل المسرحيّ، قيام سيمون القندلفت بنفسه بتلحين القصيدة الختاميّة من ديوان "ماضي الأيّام الآتية" وفق لحن جنائزيّ سريانيّ قديم.

وبذلك يكون القندلفت قد أعلن أمام الجميع، رغبة أنسي الحاج الجامحة والسّريّة بالموت في الحياة واللّعب على الخيط الواهي بين القدسيّ والدّنيويّ. في الحقيقة، ما من رابط فكري أو عاطفي يجمع النّصوص، فاللّغة متغيّرة، والمشاعر متناقضة، والنّبرة مختلفة، غير أن القراءات ارتكزت على هذا التّباين الشّديد، مشيرةً إلى عمق التّحوّلات في شعر أنسي الحاج. وكان موعد أنسي (ورفاقه أخويّة مجلّة شِعر)، فكانت لنا قصيدة النّثر العربيّة، التي يسبق كاتبها الضّوء ويتنبأ في ظلمة الحدس والرّؤيا، والتي "تُنزلنا إلى ما وراء الماء، وتصعدنا أعلى من الحرّية".

(*) عنوان تحيّة إلى الشاعر أنسي الحاج بدعوة من تجمُّع "فيحاؤنا" و"اللقاء الثقافي- زغرتا الزاوية"، تضمّنت كلمة في الشاعر، فيلماً قصيراً عنه أعدّه ضومط الدويهي، وقراءات ممسرحة من قصائده أخرجتها ماريا الدويهي وقدّمها كلّ من زهيدة درويش سيمون القندلفت ماريا الدويهي وفوزي يمّين، في 22 آب في دير مار سركيس وباخوس في إهدن.

(**) الصور المرافقة بعدسة ضومط زخيا الدّويهي

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها