الإثنين 2024/07/22

آخر تحديث: 11:55 (بيروت)

"الماء والنّقصان" لعلي القادري: تطوّر الإنسان حتّى البدائيّة

الإثنين 2024/07/22
"الماء والنّقصان" لعلي القادري: تطوّر الإنسان حتّى البدائيّة
إن شعر القادري، أخبار ولحظات ما بعد النّهاية، يشدّد على انعكاس اليأس والخراب والاستسلام على عنصريّ الزّمان والمكان
increase حجم الخط decrease
في ديوانه "الماء والنّقصان" الصّادر في مطلع هذا العام، عن دار راية للنّشر، يسعى الشّاعر الفلسطينيّ علي القادري إلى اكتشاف الحقيقة سرّاً، حقيقة النّهايات وما بعدها. يجسّدُ الديوان محاولات متشعّبةٍ ومتواصلة للوصول إلى صورة واضحة للأيّام الأخيرة. لا يمكن أن تُترك الحياة تُكرّر نفسها في دوّامات التّاريخ والوجدان، بل على الشّاعر، من وجهة نظر القادري، أن يؤسّس لمرحلة لم نصلها بعد، مرحلة ما بعد النّهاية.

يقول: "يلحُّ عليّ جسدي الرّاهنُ
مطالباً بمزيد
منَ الهواء
كيْ تتنفّسَ غابات صدري
بمزيد من الماء
لتجارب تعمّدني بالعافية
أثر الصّدمة
بمزيد من شغف الّلهب
لأشهد احتراق الصّور
التي لم تجد عيون أصحابها تُديمُ نظرة الوداع"

في ديوانه، ينكر القادري جسمه، يبتعد عنه ليلاحظ بوضوح أشدّ ترابط العلاقات بين الموارد الحيّة للجسد كالماء والهواء وللنّفس كالشّغف من جهّة وحاجاته النّفسيّة من جهةٍ أخرى. يراقب أيضاً معدّلاتها، يدرس تأثيرات نسبها المنخفضة على حاله بنمطٍ شبه عسكريّ، حيث الحدث يؤجّج الحاجة. يتبيّن لنا النّقصان شيئاً فشيئاً، دافعاً عند القادري إلى النّظر خارج جسده واكتشاف العالم. إذ إنّه في مجمل قصائد ديوانه، لا يبحث، في السّرّ أم في العلن، عن لحظات أو موارد أخرى تسدّ هذه الحاجات الملحّة، إنّما يرخي القادري عينُه على الزّمن، ليراقب مرور الأيّام واللّحظات الوجدانيّة، كأنّ الحياة أصبحت له فعل تحديد ووصفٍ النّواقص، فعل ما بعد الخسارة.

إن الخسارة والنّهاية في شعر القادري، مفهومان مبهمان. جوهر كلتيهما متغيّرٌ، موزّعٌ على حالات غير معروفة بعد، لا تكتمل أبداً. الهزيمة لم تنتهِ بعد وهي ساريةٌ حتّى ما بعد النّهاية. وهذه الأخيرة بدورها ليست إلّا البداية، وكل ما يأتي من بعدها إشارةٌ إليها. النّهاية عند القادري لا تشكّل حدثاً مُحدّد الإطار المكانيّ والزّمانيّ ضمن سيرته أو شعره. النّهاية عنده، هي الحدود بين واقعٍ غزير النّواقص وخيالٍ يضجّ رؤًى في مخيّلة الشّاعر. حتّى إن أفعال الخلق وفي مطلعها فعل الولادة، يأخذ عند القادري طابع النهايات إذ تمسي الولادة فعل احتضار وعمليّة الخلق سيناريو هزيمة وانكسار. يقول مثلاً:

"كيف جعلنا
من التّراب امرأةً وظلًّا
حين سقطت الولاداتُ
من أصابع الغيم؟"

قصيدةً تلو الأخرى، يتكوّن حول القارئ عالم جديد، في الحقيقة، عوالم جديدة، عوالم مهما بدت متشابهة في عدّة مواضع وحيثيّات جغرافية وتكاوين طبيعيّة ونفسيّة، لا تتوافق عند سيناريو واحدٍ. ومن ناحية أخرى تنبع هذه العوالم من حقيقة واحدةٍ، لا تظلّ حقيقة بعد النّهاية بل إحساساً، ألا وهي النّقصان. النّقصان يذهب بالقادري أبعد من النّهايات، إلى أزمنة وأماكن ولحظات يمكن وصفها بما بعد النّهائية. الكارثة حلّت، وهذه نقطة البداية، أم ما يتبعها فليس سوى مراقبة يائسة، لعلامات ما بعد صراع الجهد والهزيمة. في هذا السّياق، ينجح القادري باستمرار، في خلق جوّ ما بعد أبوكاليبتي، في مجمل قصائده، مانحاً ديوانه قدرة رؤيويّةً عميقة. إذ يتكرّر عنده وصفُ الحالات ليس بعد الهزيمة والاستسلام فقط إنّما في عصر اللّاحدث، في واقع اللّاواقع، الهائم على سطح التّاريخ كالزهرة على الماء. تعابير عديدة مثال على ذلك (جسد خريفيّ، حين سقط جسدي لآخر مرّة، رماد المدن البعيدة، الوجوه كجليد حنطه الوقت والسعال الجاف، لم تغرق المدينة يوماً إلّا لسوء تقدير، تكتبنا النهايات) وغيرها، لا تقترح أمام القارئ مجموعة من السيناريوهات المتشعّبة إنّما تفرض عليه الجلوس على كرسيّ خشبيّ وسط عالمٍ أكله سرطان الخراب فمات. العالم عند القادري عالم ميّت يحرّكه بعينيه فقط.

البدائيّة وما بعد النّهاية
إن شعر القادري، أخبار ولحظات ما بعد النّهاية، يشدّد على انعكاس اليأس والخراب والاستسلام على عنصريّ الزّمان والمكان. لكن هذه العمليّة التّصويريّة لا تنتهي عند حدود الوصف بل تتّخذ منحى مشوّقاً عند العودة إلى التّساؤل عن صورة العنصر البشريّ في تلك الحقبة المستقبليّة.

لعلّ غالبيّة النّظريات العلميّة ومعظم أعمال الخيال العلميّ، أكان في الأدب أم في السّينما، تُجمع على هيئة مشوّهة للإنسان في نهايات الأزمنة. بعضها تُبدّل يديه بأذرعٍ آلية، وبعضها الآخر تستعيض عن العين البشريّة بأخرى خارقة تعمل على أشعّة اللّيزر. إن ما يُجمع عليه التّصوّر الإنسانيّ للعنصر البشريّ في الأزمنة الأبوكاليبتيّة وما بعدها، ليس إلّا طغيان التّكنولوجيا والحداثة المفترسة على ضعف مناعة الجسم البشريّ أمام التّحوّلات. الإنسان في الأزمنة الأخيرة إنسانٌ خسر إنسانيّته مقابل البقاء حيّاً. أما في شعر القادري، فإنّ العنصر البشريّ ينفصل كليّاً في جوهره عن المسار التّاريخي وحلقة التّطورات الجغرافية والبيولوجية التي يحدّدها الشّاعر في إطار قصائده الزّمانيّ والمكانيّ. بِعَظْمَةِ الإنسان البدائيّ يكسر القادري أسنان التّطوّر. يعيد حسابات القارئ حيال رؤيته للجسم البشريّ وفعاليّته ضمن المجتمع "النهاءويّ".

في هذا السّياق، تتواتر في قصائد القادري تعابير صريحة تشير إلى هيئة الإنسان الأوّل. ومن تلك الأمثلة (تعود الملامح إلى فجر العادات، وثبتُ في البراري القريبة، خشونتي الاولى، الحجارة التي على شكلها الأوّل، عناصري الاولى). من هنا، تتّضح لنا شجاعة القادري في مواجهة التّبدّلات. إذ إن عالمه المتحوّر تحت أثر الغياب والموت، يشوِّه تباعاً خصائص الرّقة والحياة في عناصر الحياة اليوميّة الأساسيّة. البيوت، الجدران، الغيوم وغيرها، تتفتّت بيد أصابع يديّه رملاً. هو المتألّم من خشونته، يتعرّف على جانبه المظلم والقارص ويتفاهم معه تبعاً لترابط عميقٍ بين حالاته والغريزة الأصليّة، تلك المتأصّلة في الحيوانات.

وفي هذا الصّدد، نجد عن القادري، مجموعة من الصّور الشّعريّة المبنيّة على ترابطٍ فكريّ ووجدانيّ بين حالاته النّفسية والحيوانات وما يتبعها من هيئاتٍ وتصرّفاتٍ تحدّد همجيّتها. فنجد مثلاً صوراً كالتّالية (حصان صبري، أجتاح فيه السنابل فأراً، لنعوي في الجبال كالذئاب، بخفّة الفراشات الوحيدات، بقي ظلّي مريضاً كحجلة ذاهبة إلى ذبحها، لو يصير العالم قطّاً، نحلّق كالنّسور، فلنشعل عائلة من الفيلة الزرقاء، أطلقتُ سنجاب روحي اللاهث، حيوان فوضاي النّاهض، ابن البراري المجاورة). بين البدائيّة البشريّة والغرائز الحيوانيّة نتبيّن موقف القادري من التّحوّلات المحيطة بعالمه المألوف والآمن. فالأولى لا تشكّل بالنّسبة إليه إلا صكّاً لصديقته. إذ إنّ تلك الرّموز والعناصر اليوميّة التي خسرتْ، مع الوقت، جوهرها الأوّل، تعود في نهاية الأزمنة، إلى انطلاقتها وأصلها لتحمي الشّاعر من براثن المجهول والمبهم. أما تلك الغرائز الحيوانيّة، فتتضّح للقارئ، تباعاً خلال الدّيوان، على أنّها الأسلحة الأخيرة التي سيحارب الإنسان بها نفسه الغارقة في التّطور والهزيمة في معارك ما بعد النّهاية.

من كلّ تلك المعمعة الأركيولوجيّة الشّعريّة، ننتهي بحقيقة واحدة، ربّما مغالطة وربّما راديكاليّة، وهي أن القادري يحارب حياته الحاليّة بتحويلها إلى واقعٍ مستقبليّ متخيّل، حيث يحوّر استسلامه الحاليّ إلى مقاومة عتيدة بأسلحةٍ غريبة لا تعرف قدرتها الأيّام الآتية.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها