الجمعة 2024/08/02

آخر تحديث: 12:43 (بيروت)

أكبر 1% في العالم

الجمعة 2024/08/02
أكبر 1% في العالم
في موجة الهجرة العراقية الكبيرة، التقيتُ شعراء وروائيين ومحققي تراث، وكلهم طبعاً من الـ1% الذين لم ينتخبوا صدام حسين
increase حجم الخط decrease
مرّ زمن طويل ولم ألتقِ بأولئك الناس وجهاً لوجه. لم يخبرني عنهم أحد. كانوا نتاج عملية طرح بديهية يمكن أن تخطر لأي شخص، أثاروا فضولي فبحثت عنهم، وعثرت عليهم شيئاً فشيئاً، وإذا أردت اختيار الكلمة الأقرب للدقة فأنا لم أعثر عليهم، إنّما استنتجتهم.

أخبرني أحدٌ ما أن 99% من الناس يؤمنون بالله خالق الكون وأن النظريات الأخرى هرطقة وغباء ومعاكسة للفطرة السليمة. ثم أخبرني أحد آخر أن 99% من العلماء يؤمنون بالدارونية ومن لا يؤمنون بها معذورون لأنهم ببساطة مساكين ولا يفقهون شيئاً عن العلم.

سمعت في الأخبار على مدى عقود أن 99% من العراقيين انتخبوا صدام حسين مراراً، و99% من السوريين انتخبوا حافظ الأسد، و99% من التوانسة انتخبوا زين العابدين بن علي، و99% من المصريين انتخبوا عبد الفتاح السيسي وقبله مبارك والسادات وعبد الناصر كذلك.

رأيت في الإعلانات أن صابون ديتول (وكذلك فا ولايف بَدي وبوفالو) يقضي على 99% من البكتيريا والجراثيم، وأن 99% من أطباء الأسنان ينصحون بمعجون كولغيت (وكذلك سيغنال وسينسوداين وكريست..).

ملأت الـ99% حياتنا لدرجة مفرطة، دفعتني في لحظة ما لأنقّب عن الواحد في المئة الآخرين. وأجعلهم شغفي وفضولي. وأسعى للتعرف عليهم بأي ثمن، فهم ما تبقى لي بعدما عرفت كل شيء عن الـ99%.

بدأت من أسهل واحدٍ من الواحدات في المئة، فسألت كل طبيب أسنان أعرفه (بينهم أبناء عمومة وبنات أخوة): هل لكم أن تدلوني على ذاك الطبيب الذي لا ينصح بمعجون أسنان كذا؟ والجميع أجابني إجابة واحدة مع ضحكة واحدة: أنا.

لم يُتح لي محادثة الجراثيم والبكتيريا، فاستعنتُ بما أعرفه عن علوم المتعضيات، والتي أطلق عليها البيولوجي الروسي مكسيم فينارسكي أجمل اسم في العالم: "مسودات الإله". ومنه عرفت أن كل قبضة تراب على هذا الكوكب تحتوي على 400 مليون بكتيريا. وأن العلم شخّص حتى الآن واحداً على مليون من أنواع وحيدات الخلية التي تعيش في أجسادنا وأشيائنا وأشياء غيرنا. ومنها الجراثيم والبكتيريا. إذاً، فنسبة الواحد في المئة المتبقية، كفيلة بأن تقتلنا جميعاً خلال واحد في المئة من الثانية فيما لو أرادت ذلك.

شعرت بالرهبة من هذه الواحد في المئة من الجراثيم والبكتيريا، ووضعتها في مرتبة أبطال العالم في الجرثمة. فأي جرثومة عظيمة تلك التي لا يستطيع لوح ديتول بكامل ياسمينه القضاء عليها؟ في تلك المرحلة اعتقدت أنني ـ يا للسحر ـ قبضت على سر الكوكب، إنه الواحد في المئة.

انتقلت عتبة في رحلة شغفي، وبدأت البحث بين الناس. فالجراثيم ومعاجين الأسنان لا تكفي لتشكيل نظرية اجتماعية، فلا بد من بعض الناس كعينة بحثية. ساعدتني في ذلك موجة الهجرة العراقية الكبيرة بعد الغزو الأميركي العام 2003، والتي أتاحت لي لقاء عراقيين جدد، أناساً مختلفين عن المثقفين الذين تعرفت بهم في العقدين السابقين، والذين كانوا شعراء وروائيين ومترجمين ومحققي تراث، كلهم بالطبع من الواحد في المئة الذين لم ينتخبوا صدام حسين ولا أحمد حسن البكر من قبله. بل وأخبرونا أنهم لأجل ذلك هربوا، وأن العراقي "إذا تِكاوَن ويّا مَرَتَه أُوْ وَيَا صدام حسين يجي الشام"، وافترشوا مقهى الروضة في دمشق وحانة فريدي لمتابعة تفرّدهم الواحدي في المئة من هناك.

بعد موجة الهجرة الكبيرة، تعرفت بحلاقين وبائعي أسماك وأرامل شهداء ومنظمي رحلات زيارة إلى مقامات آل البيت، وكان الرابط المشترك بينهم أنهم من الواحد في المئة الذين لم ينتخبوا صدام حسين ولا أحمد حسن البكر.

المصريون الـ99% الذين انتخبوا السيسي، وسينتخبونه ثانية وثالثة، عرفت عنهم بطريقة أو بأخرى أنهم كانوا من الـ1% الذين لم ينتخبوا مبارك تيمناً بآبائهم الـ1% الذين لم ينتخبوا السادات ولا عبد الناصر.

السوريون الموزعون في العالم اليوم، كلهم يثبتون بطرائق متعددة أنهم كانوا من الواحد في المئة. كل التوانسة الذين أقرأ لهم أو أتابعهم تبين أنهم من الـ1%. الجزائريون، اليمنيون، الناجون من كورونا، المصابون به، أجيال متتالية من أبناء جمهوريات الموز في أميركا اللاتينية، الأفارقة الذين فاز رؤساؤهم في الانتخابات بـ99% واضطروا مع ذلك إلى طبخ معارضيهم الواحد في المئة مع الرز والكاري وتناولهم على العشاء باستخدام الشوكة والسكين. ثمة ممالك وإمارات وسلطنات أراحت رأسها من أولئك الـ99 ومن الـ1% على حدٍ سواء، ولم تدخل أساساً "في التجربة ونجت من الشرير آمين".

رياضياً لا يستقيم أن يكون كل هؤلاء 1%. لكن من الذي قال أن الرياضيات هي ما يحكم العالم؟ لو كانت كذلك لما كان اسم هؤلاء الـ1%، بل كانوا: أقلية مارقة تشكل 10-2 من الناس. لن يغير ذلك شيئاً من حيث النتيجة، لكنه سيبدو للمؤسسات الساهرة على أمن الوطن (وأمن الحكّام بالضرورة)، ولمزيفي الانتخابات، وأصحاب معامل الصابون، شيئاً ضئيلاً تافهاً لا يثير الخوف، لكنه سيبدو للآخرين واحداً من تلك الأرقام العظيمة التي لا يستطيع أحد تخيلها، كأجزاء الثانية التي وقع فيها الانفجار الكبير. كثابت بلانك، كالمسافة بين النواة والإلكترون، كأبعاد النواة نفسها، والتي إذا ما انفلتت في لحظة تاريخية ما، وتحررت من قيود ذرتها فستدمر كل ما حولها. ستفعل ذلك بالتأكيد، لأنها أكبر 1% في العالم، أو لأنها في لحظة الصحو أكبر من الـ99 مجتمعين.   

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها