الإثنين 2024/08/19

آخر تحديث: 13:29 (بيروت)

محمد حضير... مواسم التمور مهدورة

الإثنين 2024/08/19
محمد حضير... مواسم التمور مهدورة
increase حجم الخط decrease
نبّهني منشور لكاتبتنا المبدعة لطفية الدليمي، عن بهجة قطاف الثمار ومتعة النظر في نتاج الطبيعة الثريّة بالخصب والتنوّع، إلى ما نفرّط فيه في حياتنا الاقتصادية والاجتماعية من مواسم ومناسبات يهتمّ بها غيرنا من الشعوب اهتماماً خاصاً ومنتظماً. ولعلّ واحدة من أهمّ  المناسبات المفرَّط فيها دون تدبير أو اعتبار اقتصاديّ واجتماعيّ، موسم قطاف التمور في العراق- وسطه وجنوبه خاصة.

يخصِّص "الجاحظ" في معظم كتبه جانباً يروي فيه أخباراً وحكايات عن مواسم قطاف التمور، وما يداخلها ويخرج عنها من عمل بهيج، واختلاط كبير بين الأجناس، وما تنتجه من نصوص لغويّة غاية في الدهشة والجمال. هذا جزء من اهتمام الأقدمين، الذين وجدوا في مجتمع البساتين ضالّتهم الوحيدة للأنس والحكي وتوارث العمل الزراعيّ وتدوينه في تصانيف خالدة، ككتاب "النخل" للأصمعيّ، وقد انحدر منها ما يخلد في الأذهان ويُعتبر في الأمثال السائرة، ومنها هذان البيتان المنسوبان لسيبويه، قالهما وقت احتضاره بعد عودته من مناظرةٍ لغوية في بغداد خسرَها أمام الكسائيّ:
"يؤمِّل دنيا لتبقى له/ فوافى المنيَّةَ قبل الأمل!
حثيثاً يروّي أصولَ الفسيل/ فعاش الفسيلُ ومات الرَّجُل!"

ومن حداثة هذا الإرث الكبير، واستطالة ظلاله بين ضفّتين، بل بين طبيعتين، النهر والصحراء، ما تقيمه دولُ الخليج من أسواق ومهرجانات سنوية (المملكة العربية السعودية بخاصة، التي تملك 2.3 مليون شجرة نخيل وتنتج أكثر من 90,000 طن من التمور كل عام)، وما تستحدثه من ثقافة تصاحب تلك الأسواق، بل تزدهر بازدهارها، وتنشط على أساسها، أشهرُها سوق "بريدة" الذي ينعقد في شهر آب من كل عام، مثالاً لِما حفظه تاريخ المواسم القديمة من نشاط اقتصادي/ اجتماعي، في مساحات متفرّقة على أطراف الصحراء، وتوفيراً لخير ما وردَ في التقاويم والتواريخ وميادين العمل الجماعيّ بأيدي فلاحي الأرض، وتجّار المواسم، وصانعي الفرح والكسب المشروع. 

لا أرى ما يسوّغ تأخّرنا في هذه التجارة الرابحة- نحن الغارسين/الكاسبين أجرَ العمل واتصالَ المعروف الثقافيّ من كتُب الجاحظ حتى قصائد الجواهري، ومن اقتصاديات السوق الوطنية حتى استثمارات السوق الإقليمية والعالمية، وننتج من التمور ما يُقدَّر بـ753 ألف طن من مجموع أشجار النخيل البالغ 17 مليون نخلة. ولا أظنّ تقاعسنا عن إحياء مواسم التمور في بلادنا، إلا خمولاً وارتداداً عن تقليد موروث من عصر القطاف الكبير لغرس الفلاح العراقي، المخلَّد شجرُه على جداريات التاريخ القديم. ألا مؤسسة أو مجموعة تجّار، أو رهط من أهل الفلاحة والتسويق، تقيم سوقاً، وتحيي أثراً، وتنشر كتاباً، في مدينة من عراق الخصب والأصناف النادرة من التمور، حتى تبرد حسرة "سيبويه"، فلا تعود أصلاً وطبعاً في أيّ مناظرة تقام بين عصرين وسوقين، على ضفاف الطبيعة القفراء؟

(*) مدونة نشرها القاص العراقي محمد خضير في صفحته الفايسبوكية
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها