الثلاثاء 2024/07/16

آخر تحديث: 10:39 (بيروت)

"منتصف الليل في القاهرة"..خوف الشموليين من القوة الناعمة

الثلاثاء 2024/07/16
"منتصف الليل في القاهرة"..خوف الشموليين من القوة الناعمة
القاهرة زمان
increase حجم الخط decrease
يحكي الكاتب والباحث البريطاني، الزائر في جامعة كولومبيا، رفاييل كورماك في كتابه "منتصف الليل في القاهرة: نجمات مصر في العشرينيات من القرن الماضي"(صدر عن دار الكتب خان ونشر موقع "باب مصر" بعض فصوله الدسمة)، حكاية منسيّة ومهمّشة ومثيرة عن المسرح والغناء والرقص تُظهر الشرق الأوسط الحديث. سرد موجز ومكثف لحداثة مصر ولحكايات نساء جئن من خلفيات ريفية فقيرة سواء في مصر أو من لبنان، وأصبحن نجمات بارزات وصانعات وحتى ضحايا في عالم الترفيه والثقافة والإعلام في مصر.


 يستخدم المؤرخ البريطاني سيرة المطربات والممثلات والراقصات في العشرينات كي يكشف عن تاريخ الشرق الأوسط، انطلاقاً من أن "تاريخ الأزبكيَّة هو أيضًا تاريخ مصر الحديثة"، فقد عاش في القاهرة وقتها المصريون والسوريون واللبنانيون السودانيون والأميركيون والأفارقة والأرمن والروس والبريطانيون واليونانيون والايطاليون واليهود والشركس والمسلمو والأقباط... حياة الليل في القاهرة وهي في أوج ازدهارها "كانت تُضاهي نظيراتها في لندن أو باريس أو برلين". في تلك الفترة الاستعمارية عاشت القاهرة "عصر الترفيه الاجتماعي وأكثر لحظاتها انفتاحاً، حيث اكتظت بالمسارح والمقاهي والحانات والنوادي الليلية، وزارها العديد من الممثلين والمغنيين والراقصات من جميع أنحاء العالم". ستتطور مصر من ولاية مهملة إلى حد كبير من ولايات السلطنة العثمانية إلى دولة حديثة مزدهرة ومهمة سياسيَّا. قوة اقتصادية صاعدة ما لبثت أن صارتْ محمية (شبه رسمية) للمملكة البريطانية المستعمرة. ستسيطر المسارح ودور السينما والكباريهات على القاهرة كما كان شائعًا في جميع أنحاء العالم. بحلول نهاية القرن، كانت الحياة الليلية في القاهرة تتركز في حي الأزبكية. كانت المنطقة تفخر أنها تضم ما لا يقل عن ثلاثة عشر مكانًا ترفيهيًا كبيرًا وعددًا لا يحصى من البارات والمقاهي الأصغر. كانت العديد من هذه الأماكن تقدم عروضًا للمغنيات أو الراقصات في غرف مليئة بالدخان والخمور، يخبرنا كورماك أن رئيس الوزراء الفرنسي السابق جورج كليمنصو قدم ذات مرة للمغنية نعيمة المصرية زجاجة من الشمبانيا هو الآن متجر لقطع غيار السيارات، على سبيل المثال. كما كانت تضم صالات للقمار وأوكار للحشيش وغير ذلك. كانت تتمركز في حي الأزبكية، دار أوبرا كبيرة وفنادق باهظة الثمن وقاعات رقص وحانات ومقاه لا حصر لها. و"العديد من هذه الأماكن كانت تقدّم عروضا للمغنين أو الراقصين، في ذلك الوقت كانت مصر مجتمعًا متعدّد الثقافات يختلط فيه اليهود والمسلمون والمسيحيون والأجانب بحرية، لم تكن الحياة في الأزبكية مقيدة بأي شيء". لكن كانت المنطقة صلة وصل بين عالمين، منطقة لم تخل من القمع والتحرش والعنف الذكوري، وموئل الطبقات والقوميات والأجناس والموسيقى والجمال والمسرح والشهوانية.



إلى جانب أماكن الحياة الليلية، كانت هناك العديد من الفنادق التي تلبي احتياجات المسافرين الأوروبيين. وكان من أبرزها فندق شبرد بتراسه الشهير. حيث كان أفراد النخبة من جميع أنحاء العالم يتجمعون فيه في موسم الشتاء. تلك الفنادق إلى جانب البنايات الجديدة المبنية على الطراز الفرنسي والتي ظهرت فجأة في هذا الجزء من القاهرة دفعت الناس إلى تسمية الأزبكية بالحي الأوروبي. ومع ذلك، كان هناك المزيد من الأحداث التي كانت تجري في هذه المنطقة أكثر مما يشير إليه هذا الاسم.  
وتطوّرت صناعة الترفيه الحديثة في القاهرة خلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين مع ظهور المسارح والنوادي الليلية مع تحولات ثورة عام 1919 التي أشعلت التغيير الاجتماعي والازدهار الثقافي وظهور سيد درويش والنضال ضد الاستعمار في عشرينيات القرن الماضي. الحركات السياسية والاجتماعية والثقافية التي ظهرت في العصر الذهبي تلك الفترة بما في ذلك الحركة النسوية، سبع فنانات مصريات لعبن دور البطولة في العشرينيات. كانت تلك السيدات ليس فقط فنانات ولكن أيضاً رائدات أعمال وصاحبات فرق وتنتمي كل واحدة منهن إلى خلفية مختلفة. من فاطمة رشدي، رائدة السينما المصرية، التي اكتشفها يوسف وهبي في سنة 1925 وصادفها سيد درويش وأختها إنصاف في إحدى مقاهي الإسكندرية وضمّهما إلى فرقته المستحدثة في القاهرة. إلى المطربة فاطمة سري(لنا عودة لسيرتها في مقال خاص)، التي لم تنل حظها من الشهرة والانتشار رغم إنجازاتها المميزة، وما قدمته من أعمال بالتعاون مع الملحن داود حسني، وكيف تحولت قصة الحبّ التي جمعتها مع محمد الشعراوي إلى موضوع فيلم "فاطمة" الشهير، 1947 الذي مثلت فيه أم كلثوم. إلى أم كلثوم نفسها التي نشأت وهي تغني الأغاني الدينية في فرقة والدها وأصبحت "الرمز الأكثر شهرة في تاريخ الموسيقى العربية"، ومنافستها منيرة المهدية كانت أول امرأة مصرية تقود فرقة مسرحية، وقد أثارت ضجّة كبيرة عندما ظهرت فى أدوار الرجال علي خشبة المسرح في العقد الأول من القرن الماضي، إلى الممثلة روز اليوسف، أسست مجلة وأطلقت عليها اسمها، وكانت بمثابة مصدر مهم للمعلومات عن الحياة الليلية في القاهرة. إلى مفيدة محمد غنيم، المعروفة أيضاً باسمها المسرحى "عزيزة أمير"، المؤسس الحقيقي للسينما المصرية قبل أن يؤسس طلعت حرب "استوديو مصر" عام 1937. دون أن ننسى بديعة مصابني السورية اللبنانية التي افتتحت سنة 1926 أوّل صالة لها في شارع عماد الدين، وحرصت أن يجمع تصميمها وديكوراتها بين الكباريه الأوروبي وقاعة الموسيقى العربية، وأن تحتضن راقصات ومطربات أمثال تحية كاريوكا وسامية جمال وليلى مراد وفريد الاطرش، لن يطول الوقت حتى أصبحن من المشاهير في مصر والعالم العربي بأسره.


أعاد كورماك من خلال قراءة حياة المطربات والممثلات الأكثر نفوذا ومحبّة، خلق قاهرة تمتعت فيها المرأة بفضل عزيمتها ومثابرتها ببعض النفوذ والاستقلالية، قدم هذا الجيل الجديد من المشاهير رؤية جديدة للمرأة في مصر، وذلك بفضل الرياح المتقاطعة للاستعمار والقومية والمحافظة والليبرالية والقيم الدينية والعلمانية والنظام الأبوى والنسوية.

النهايات
 تميزت القاهرة بحياة ثقافية ثرية وباذخة كوزموبوليتية في بداية القرن التاسع عشر. لكن العقود القادمة ستغير مصر – وحياتها الليلية – بما جعلها تختلف تمامًا عن عهدها السابق. في أوائل خمسينيات القرن العشرين أحرق قسم كبير من الأزبكية الأنيقة والمركز الرئيسي لصناعة الترفيه في مصر في 26 كانون الثاني/يناير 1952، كان حريق القاهرة أبشع حدث تعرضت له العاصمة المصرية خلال القرن العشرين، وأكثر صفحات تاريخها غموضاً، وأشدها تأثيراً في مجريات الاحداث. تلا الحريق انقلاب الضباط الأحرار في 23 يوليو الذي أطاح بالنظام الملكي، وجاء مجلس قيادة الثورة إلى السلطة وعلى رأسه محمد نجيب، وظهر عبد الناصر وحده بعد سنتين، وعصره يسميه كورماك "الازدراء شبه المتشدد لصناعة الترفيه الحديثة"، فقد قام عبد الناصر بالإجهاز على هذه الصناعة بجوانبها كافة خطوة بخطوة، وهاجم أمكنة الترفيه في بيروت من مطعم فيصل إلى مقهى الدولتشي فيتا باعتبارهما مصنع "المؤامرات" و"المكائد" السياسية، ولم يتبق بعد قراراته المعلنة والخفية من الحياة الثقافية والترفيهية سوى البقايا المحتضرة، دار الأوپرا الخِديويَّة تعرضت عام 1971، واستبدالت بموقفٍ كبير للسَّيارات حالياً. الباب الأصليّ لأحد مسارح دار الأوپرا القديمة، على سبيل المثال، يُستَخدَمُ الآن كبوَّابةٍ لمَدخَل أحد مكاتب البريد في الحَيّ. وكازينو "الهامبرا" القديم، الذي كانت تملكه المُطربَة نعيمة المصريَّة، أصبح متجرًا لبيع قطع غيار السَّيارات حالياً. والمبنى القديم للمسرح المصري في "شارع عبدالعزيز" في وسط القاهرة أصبح دارًا للسينما في الوقت الراهن، فيما أصبح هيكل المسرح مخزنًا لبضائع العديد من المَحال التجاريَّة المجاورة. بعد انهيار الناصرية وبروز الساداتية، ظهرت موجة الممثلات التائبات والمحجبات و"السينما النظيفة"...

 ونبذ الترفيه في القاهرة يتقاطع مع ثقافة النائب اللبناني التابع لحزب الله، محمد رعد الذي يعتبر أن بعض رواد الملاهي والبحر يريدون تدمير لبنان.

من يقرأ كتاب كورماك يدرك لماذا يخاف الشموليون من القوة الناعمة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها