الأربعاء 2024/07/10

آخر تحديث: 15:05 (بيروت)

دكتوراه ربيع فخري عن سائقي "أوبر"-كندا: مهاجرون في البرزخ

الأربعاء 2024/07/10
دكتوراه ربيع فخري عن سائقي "أوبر"-كندا: مهاجرون في البرزخ
ماركس سائق "اوبر" (الصورة الفنية التي أنجزها المصور الشهيد عصام عبد الله لمساعدة صديقه ربيع)
increase حجم الخط decrease
أخيراً، نال ربيع فخري جميل شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع تخوّله وضع الرمز "د." أمام اسمه في الوثائق الرسمية والأكاديمية وفي حساباته في السوشال ميديا وحتى على ورقة تسجيل النقاط أثناء جلسة حماسية للعب الطرنيب والليخة… لو أراد ذلك، لكنه لن يفعلها.

لن يضع ربيع ذلك الرمز المستَحَق عن جدارة من كلية السوسيولوجيا في جامعة مونتريال المرموقة، بدرجة "إستثنائي" تقديراً لرسالته التي تدور حول سائقي شركة "أوبر" وأحوالهم، لأن مَن يعرف هذا الشاب يعرف أنه استثنائي بطبيعته.

والكتابة في هذه المناسبة عن هذا الشخص - الآتي من لبنان - ليست أبداً، كما جرت عادة الكتابة عن مآثر لبنانيي المَهاجر، بهدف التغنّي بهم ورفع اسم بلدهم عالياً، فلبنان على الورق ليس بلد ربيع. هو عاش معظم حياته في لبنان، توفيت أمه في أثناء غربته القسرية عنها بعدما عاشت انفجار 4 آب في مرفأ بيروت، شبّ ودرس وعمل وتزوج وأنجب في لبنان من زوجة لبنانية… لكنه وولديه ليسوا لبنانيين.



كل تلك "الدَمْغات" اللبنانية لم تشفع له، لفَظه لبنان خارج حدوده، فجاء لاجئاً إلى كندا وحلّ في مدينة مونتريال… وبعد صبرٍ على طول انتظار، ها هي العائلة كلها تحمل الجنسية الكندية.

والغرض من الكتابة في هذه المناسبة هو أيضاً لمواكبة النتائج التي توصّل إليها ربيع في رسالته حول مجتمع سائقي "أوبر"، بسلوكيات موازية لها في بيئات مشابهة ضمن كندا.

بعد نيله الشهادة العليا التي كانت، في زمن مضى، وما زالت تثير في كل خرّيج رغبة في العودة إلى بلد نشأته، ليشحن إليه ما جناه من علوم ومعارف، وجد ربيع نفسه عالقاً في غربته. وعبّر عن ذلك في منشور حديث له في فايسبوك قائلاً: "منذ 8 سنوات، تركنا البلد قسراً لنؤمّن جنسية تقينا شر العنصرية والتمييز وعلى أمل عودة ما. حصلنا على الجنسية، لكن البلد طار ولم يبقَ فيه شيء نعود إليه، فبقينا نعيش في البرزخ".

والبرزخ هو حاجز يفصل بين شيئين مختلفين - وفي هذا السياق، بين منشأ ومهجر وبين ألفة وغربة - ويمنع اختلاطهما وامتزاجهما. سكّانه يعانون فصاماً بين رغبة عارمة في الاستيطان نهائياً في الأرض الجديدة وبين عجز ذاتي وموضوعي عن تلبيتها، يصل إلى حد الرغبة في العودة، وتبقى هذه في أحيان كثيرة رغبةً دفينة.

والذي يحصل في ذلك المكان، أو بالأحرى في تلك الحالة الذهنية، من ناحية أولى، هو عملية نبش للذات بحثاً عن رواسب اجتماعية وثقافية يمكن التخلّص منها، لعلّ تغييراً ما يطرأ على تلك الذات يساعدها في اختراق موانع الاندماج في المهجر.

ومن الأمثلة على ذلك، تخلّي بعض اللبنانيين عن مسلّمات لم تكن تمثّل قناعاتهم في بلدهم الأصلي؛ كأن يُنكر هذا البعض (عن حق أو عن باطل) أن اللغة التي ينطق بها هي اللغة العربية ويعلن أنها الفينيقيّة.

وقائع كثيرة تُثْبت هكذا تصرّفات. واختصاراً للإطالة، يبدو أن تلك الجماعات تجد في التخلّص من الانتماء إلى العروبة، وهذا مشتهى شطر من اللبنانيين، ما يساعدهم على تخطي حواجز الاندماج في بلد مثل كندا، يبدي عنصريةً ممنهجة، حيال الوافدين من ذوي سحنة غير بيضاء (والعرب ضمناً). وذلك مع العلم أن البشرة البيضاء وحدها لا تكفي لدرء مغبّة التمييز والتفرقة، حتى تأتي اللهجة التي تُنطَق بها الفرنسية والإنكليزية و/أو بلد الولادة، لتثبيت أو نفي الانتماء إلى البيض المتسيّدين.



وما هي العنصرية الممنهجة؟ هي في السياق ذاته، مثلاً، أن يقال لممثلة عربية - كندية خبرتها طويلة في بلدها وخارجه، أن يقالَ لها في معرض رد طلب انضمامها إلى وكالة لتشغيل الفنانين، إن "لونَ بشرتِكِ أشدّ بياضاً من أن تكوني عربية"، علماً، كما أشار ربيع في السياق نفسه، خلال عرض رسالته، إلى أن "لا شيء إطلاقاً في القوانين يمنع أحداً من التقدّم بطلب عمل أو يمنع مؤسسة من قبوله".

ضمن البرزخ… سائقو "أوبر" أولاد الحي الثاني
من ناحية ثانية، تبرز أيضاً في البرزخ ذاته، حالة من التشبّث بالرواسب الاجتماعية والثقافية الموروثة في المنشأ، بما في ذلك السلوكيات ولغة التواصل، العربية وغيرها. ذلك أن لكل مهاجر في كندا، يتعثّر في الاندماج، بقعة مصغّرة عن وطنه الأم، تنشئها تجمّعات إثنية متجانسة، مثل المغرب الصغير وإيطاليا الصغيرة والحي الصيني وغيرها الكثير… تجعلهم، ضمن الاجتماع العام، "أولاد الحي الثاني" الغامضين مثيري الريبة في نظر الآخرين.

والسبب الأبرز لهذا التشبّث هو "صعوبة العثور على عمل والاضطرار إلى الخضوع لتسوية ما، بين الكفاءات الفعلية والأعمال المتوافرة في سوق العمل؛ الأعمال تحديداً وليس الفرص، لأن "فرص العمل المتاحة لحَمَلة شهادات عالية من بلدان المنشأ، شحيحة،" كما يشرح ربيع. وهما الأمران اللذان يدفعان هذا المهاجر إلى تفضيل البقاء في جوار الأقربين إليه ثقافياً ولغوياً والاقتناع بعمل مُرضٍ ومُجزٍ إلى حد ما.

ويلفت ربيع إلى أمر مهم في هذه المسألة، وهو أن "الشهادات الجامعية والخبرات المهنية في بلدان المنشأ تؤدي دوراً حاسماً في قبول ملفات طالبي الهجرة إلى كندا. لكنّ قيمتها تُهرَق ما إن يطأ حَمَلتُها سوق العمل الكندي. حينها، ينبغي للمهاجر المعني أن يعيد تحصيل مهاراته وكفاءاته من جديد".

وللمضطرّ إلى إيجاد عمل سريعاً أو لمن انسد الأفق في وجهه بعد محاولات فاشلة أو تلقّيه أجوراً بخسة، ثمة سيناريو بسيط يدفعه نحو "أوبر"، موضوع الرسالة.

أمام كل العقبات ولتلبية الحاجة الملحّة إلى جني الأموال، تبقى للمضطر خبرة واحدة مقبولة، لا تُنكرها الأنظمة الكندية، وهي خبرته في قيادة السيارة. فيقرر العمل كسائق تاكسي ليجد أن أمامه سنتَي دراسة على الأقل، وامتحانات تعقيدها مبرَّر للحفاظ على السلامة العامة واكتساب حسن التدبّر والتوجّه والتعامل مع الركّاب. وهو الأمر الذي يدفعه نحو "أوبر" التي تفرض شروطاً أقل صرامة.

والانخراط في عمل كسّيب، يساعد هذه الفئة على التكيّف مع ظروف البلاد المعيشية أكثر منها الاجتماعية. والتكيّف هنا لا يقود بالضرورة إلى الاندماج التام، ناهيكم بالانتماء.

ما هي "أوبر" كنموذج اقتصادي يتيح العمل لهؤلاء؟
إنها شركة نقل أميركية عابرة للدول تقدم خدمات نقل الركاب والبضائع والبريد السريع وتوصيل الطعام في 10500 مدينة حول العالم، ضمن 70 بلداً. ويستفيد منها حوالى 150 مليون مستخدم شهريًا، و6 ملايين سائق، بمعدّل رحلات يصل إلى 28 مليون رحلة يومياً. وكما هو معروف، يجري التعامل مع خدماتها عبر تطبيق Uber، وهو منصّة رقمية تعمل بموجب خوارزميات خاصة بالأمور اللوجستية: طلب الخدمة، تحديد موضع السيارة من العميل، موعد الركوب، مسافة الطريق والمدّة، تقييم السائق والبقشيش (العلاوة)… وغير ذلك.

وعلى هذه الشركة مآخذ كثيرة، منها: 1) إحداثها اضطرابات في عمل التاكسي التقليدي. 2) تسببها بزيادة الازدحام المروري. 3) تملّصها من القوانين والأنظمة المرورية السارية في بعض البلدان بذريعة أنها شركة تكنولوجية وليست شركة تاكسي، ما جعلها توقف عملياتها حيث لم تمتثل. 4) أما أبرز تلك المآخذ فهو في اعتبارها سائقيها عمّالاً مؤقتين أو مقاولين مستقلين، بغية التملّص من دفع رسوم التأمين على حياتهم وصحتهم والتعويضات المترتّبة.

وهذا ما هدفت رسالة ربيع إلى معالجته. وقد وضعها تحت عنوان: "على الطريق مع سائقي أوبر؛ كيف تدير الخوارزميات مسار العمل في إطار من المراقبة الشاملة والهشاشة الكلّية".

"أوبر" تتّبع نظاماً اقتصادياً تشاركياً، أي أنها عبر منصّتها توفّر الركّاب والعملاء "للسائق - الشريك" وتنظّم الرحلات والتوصيلات ثم تحتسب الحصص وترصد تقييمات الركّاب والعملاء وملاحظاتهم على السائق والرحلات. أما السائق - الشريك فيعمل على سيارته ويدفع التأمين على حياته وتأمين المركبة وصيانتها ومصاريفها ويبذل قوة العمل في توصيل الركّاب أو البضائع.

تنطوي صورة الشراكة هذه، التي تبدو من دون علل، على حال من "الهشاشة الكلّية" للعاملين والمستترة خلف حاجتهم الماسّة إلى عمل يحفظ بعضاً من كرامتهم. والهشاشة، كما وردت في عنوان الرسالة، هي عدم استقرار أحوال السائقين في عملهم هذا.

فما الذي يتسبّب في حالة اللاستقرار؟ تُعتبر وظيفة سائق/ة "أوبر" أحياناً عملاً دائماً وأحياناً أخرى عملاً إضافياً على وظيفة أخرى أو أكثر، أي بدوام جزئي. لكنْ، مهما كان نوعها، يبقى التعامل معها وفقاً لشروط العمل التي تفرضها الشركة هو منبع الإشكالية.

بدايةً، يعتبر السائق - الشريك نفسه عاملاً أو مقاولاً مستقلاً، وينطوي ذلك على إيحاء بأن السائق حرّ لا يخضع لأوامر مدير مباشر. إلاّ أن خوارزميات إدارة العمليات تبقى على أعقابه في أدق التفاصيل طوال وقت الرحلة وما قبله وما بعده. أي أن المراقبة شاملة ومُحكمة، panoptic (وهذه عبارة وردت في العنوان الأصلي بالإنكليزية للرسالة، ومأخوذة عن المراقبة المركزية المشددة في السجون) تسجّل للسائق سلوكه وتصرّفاته. بمعنى آخر، يبقى السائق تحت رحمة الخوارزميات الآلية وأمزجة الركّاب الذين هم "دائماً على حق".

سلوك السائق المحاصَر هو النقطة الوحيدة في سجلّه التي تكافئه أو تجازيه. ولذلك تراه يأمل دائماً في الحصول على عدد من "النجوم" أقصاه 5 نجمات، يضاف إليه البقشيش ثم التعليق الحسن من الراكب. وأحياناً، لا تشفع للسائق نظافة سجلّه الطويلة إذا أخلّ مرّة بقوانين التعامل، حتى لو كانت شكوى الراكب منه مزاجية أو عنصرية. فيُعلَّق حسابه في منصة "أوبر" ويجري الموظّفون المتخصصون تحقيقاً، يتوقّف على نتائجه استمرار السائق في العمل أو صرفه منه. وهذا ما يجعل مفهوم العمل الحر أو المقاولة المستقلة بعيد المنال.

مع السائقين في البرزخ
بناء على ما تقدّم، لم يستغرب ربيع من سائق، صعد إلى سيارته بقصد إجراء حديث معه بشأن رسالته، أنه ظلّ مبتسماً ومسايراً طوال وقت الرحلة، ليطالبَه في نهايتها بـ"خمسة نجوم لقاء ابتسامتي،" كما يروي ربيع الذي أجرى أكثر من 120 رحلة مع سائقي أوبر في مونتريال وتورونتو. وكان يركب في السيارة ويعلن القصد من الرحلة، ليأخذ إذن السائق بنشر الحديث بينهما ضمن بحثه، محافظاً بذلك على الأخلاقيات المهنية.

ومما رواه ربيع عن تجربته "المُرهِقة"، كما وصفها أن "غالبية السائقين العرب هم من حَملة الشهادات العالية. جاءوا إلى كندا وهم، مثلي، في منتصف العقد الثالث من العمر. ووجدوا صعوبة في الاندماج إقتصادياً وليس ثقافياً". ويوضح أن "هؤلاء دفعوا أموالاً للمجيء إلى كندا. وكندا اختارتهم وقَبِلتهم. لكنْ، ما إن وصلوا حتى انتفت قيمة شهاداتهم فباتوا من ذوي الكفاءات الزائدة". وكأن شهاداتهم علقت معهم في البرزخ. ويضيف: "ولأن المهاجر لا يملك رأس المال الثقافي والاجتماعي المطلوب، لا يستطيع العمل بموجب مؤهلاته. ويجد نفسه منخرطاً في وظائف يسهّل له النظام الاقتصادي نفسه الحصول عليها، لوجود نقص في عمالتها، مهما كانت كفاءاته (السابقة)".

وصادف ربيع نماذج عديدة من هؤلاء السائقين، منهم "مهندس معمار جزائري وتقني  لديه 15 سنة خبرة في إدارة الموانئ في قطر، وثالث مهندس إلكترونيات ورابع مهندس صناعي… وفي تورونتو" "قابلتُ سائقة أوبر محجّبة، هاجرت مع زوجها من بريطانيا، كان أهلها هاجروا إليها من أحد بلدان شبه القارة الهندية في سبعينيات القرن العشرين. وهي تعمل 3 وظائف، إحداها مع أوبر لكي تعتاش… فبدأتُ أتساءل عمّا جرى لهم، وكانت ردودهم أنهم علقوا في هذه الدوّامة".

ويتابع ربيع سرده: "أخيراً، وقعتُ على سائق تونسي يحمل شهادتين، واحدة في الزراعة من تونس، وأخرى في الاقتصاد الزراعي من فرنسا ويتقن اللغة الفرنسية. وهو رفض أن يلتحق بجامعة ليدرس من جديد. فقد أجرى عدداً من مقابلات العمل ورُفض فأصابه اليأس، لكنه رد هذا الرفض إلى صعوبة اندماجه في رأي مَن قابلوه، وليس لنقص في شهادته".

في هذه المرحلة، أخذ ربيع يتلمّس آثار "التفرقة الممنهجة" التي تُمارَس خارج القوانين، وتالياً، صعوبة تخطّيها. وهو أقّر بأن التعاطي مع هؤلاء الأشخاص الذين لا يجدون أعمالاً تضاهي شهاداتهم الجامعية العالية، ومنهم مَن عليه دفع أقساط شهرية ويعملون لدى "أوبر"... كل ذلك "أصابني بإرهاق وبضغط نفسي شديد، فأوقفت الرحلات مع السائقين، وتعطّلتُ طويلاً عن بحثي الأكاديمي".

انتهى الدفاع عن الرسالة ومُنح ربيع درجة "استثنائي"، ومع إعلانها وجّه الأكاديميون مع الحضور تحية إلى فلسطين.

أين كان عصام؟
لم يكن ربيع وحده حين استعاد نشاطه في العمل على رسالته. فقبل تقديم إحدى الأوراق البحثية لمعالجة إشكالية سائقي "أوبر" كعمّال استناداً إلى النظرية الماركسية، أراد أن ينفّذ رسوماً تُبرز الفكرة الأساسية للورقة. فطلب آنذاك، وفي آخر لحظة، مساعدة من صديقه المصوّر الشهيد، عصام عبدالله، الذي قتلته نيران إسرائيلية مباشرة على تجمّع للصحافيين في عراء جنوب لبنان.

وتلبيةً لطلب ربيع، أرسل له عصام "حجَجاً" غرافيكية تصيب فكرة البحث، منها رسم للفيلسوف الاشتراكي الألماني كارل ماركس يقود سيارته كعامل مؤقّت لدى "أوبر".

ذكر ربيع هذه الحادثة، أثناء الاحتفاء بنيله الدكتوراه. وأقرّ بأن غرافيك عصام أدّى إلى منحه علامة كاملة على الورقة البحثية. رفع ربيع نخباً إلى عصام ثم عاد كل منهما إلى برزخه!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها