الجمعة 2024/06/07

آخر تحديث: 14:16 (بيروت)

"كتلة كتلة" لشادي أيوب… بناء مدينة من أنقاضها

الجمعة 2024/06/07
increase حجم الخط decrease
"كتلة كتلة"، En Bloc، هو المعرض الفردي الثامن منذ 2011 للفنان شادي أيوب الكندي من أصل لبناني. سبقه 12 معرضاً جَماعياً و4 مشاريع خاصة. أبصر "كتلة كتلة" النور في 28 أيلول / سبتمبر 2023 بمونتريال. وتقرّر أن يجول على المراكز الثقافية في المدينة. ثم افتتح لمرة ثانية بنسخةٍ مطوّرة، في 18 أيار الماضي 2024، في دار الثقافة في منطقة كوت دي نيج، الغنية بتنوعها الإثني - الثقافي، بمونتريال. ويستمر لغاية 8 أيلول المقبل. 

انطلق شادي في مشواره هذا من اتصال هاتفي:
- ألو سيد شادي أيوب؟
- نعم
- معك بلدية تيربونْ، رصدنا مبلغاً لإقامة نشاط فنّي يهدف إلى تقريب قطاع الصناعة من عالم الثقافة. هل يهمّك أن تتولى تنفيذه؟

تستند مشاريع كهذا في كيبيك على اتفاقيات للتطوير الثقافي تمكّن وزارة الثقافة والبلديات المحلية والإقليمية من تسخير معارفها بواقع أحول المناطق وتجسيد قراراتها في مشاريع من شأنها تعزيز الثقافة والتواصل.

وافق الشاب الأربعيني، خريج معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية (1998- 1999)، على تلبية طلب بلدية تيربونْ في الضاحية الشمالية لمونتريال الكبرى. ثم توجّه إلى مصنع للأبواب والنوافذ عالية الجودة هناك، وأقام فيه حوالى 4 أشهر مع العمّال والإداريين، قبل أن يتم تجهيز مدينته.

وبالحديث عن المدن، هو صراع الحواضر الدائم ما أوصل شادي إلى تلك الضاحية بعد أن كان من سكّان مونتريال. لم تطرده المدينة، فبعد نحو عقدين على توطّنه فيها، غدا هذا الفنان مكافِئاً لها.

وبصفته خبيرا إقليميا ضمن برنامج دمج الفنون في العمارة والبيئة التابع لوزارة الثقافة والاتصالات، منذ 2020، قرّر التوجّه إلى الشمال لكي يجول على القدرات والمؤهلات الفنية، انطلاقاً من سؤال ابتدائي طرحه على نفسه متلمّساً به الواقع الجديد قبل الشروع في البحث: "ماذا يعلم جمهور الضواحي عن الفن المعاصر؟" جاءه الجواب من خلال عثوره على قدرات ومؤهلات فنية وفيرة، لكنها كانت خفِرة بعض الشيء ومستتِرة. بعضها قمعه صلف المدينة الكبرى المجاورة. وبعضها الآخر جذبته إليها وابتلعته واحتكرته لنفسها بأنانية مفرطة. ليس هذا السلوك جديداً على المدن، فدورها غبً خيرات الأطراف والأرياف وناسها لتبقى حيّة.

أما الدور الذي لعبه ويلعبه شادي في هذا المضمار، فيتخطّى البحث عن مواهب إلى توفير البيئة المناسبة لتعزيز حضورها ضمن الحركة الواسعة للثقافة والفنون. وهو دور مناهض للدور التاريخي المعهود للمدن، وخصوصاً أنه استطاع أن يقيم، في 2020 مع فنّاني تلك الناحية، مركز "رونْ - بوانْ" (الدوّار) للفنانين. وقدّموا ولا يزالون من خلاله أعمالاً تهدف إلى نشر الفنون في مدينة تيربونْ، إضافة إلى إثارة فضول أهل الجارة الكبرى الذين أخذوا يتقاطرون إليها للاطّلاع على مشاريعهم الفنية.

الرجل المرآة يسأل "عمل فني أم مسار إبداعي؟"

حضر الفنّان التشكيلي البصري إلى المصنع وقدّم الفكرة والمسار إلى المعنيين، فأُعطِي له كل ما يتطلّبه تنفيذ مشروعه المبتَكر. ثم عقد لقاءات مع العمّال ليبسّط لهم مفهوم العمل بالفنون وعلاقة الجمهور بها. ونجح هذا التعريف في جعلهم يشعرون بأنهم مقدِمون على عملية جديدة، هم الذين يخضعون يومياً لأنظمة مختلفة في العمل، فبين تسجيل الدخول ثم الخروج، هناك أمر اليوم، جداول الإنجاز والتسليم، المقاسات، الماكينات، الصيانة، التنفيذ وفقاً لتعليمات، وأشغال كثيرة أخرى… المهم أن 7 عمّال قبلوا الانخراط في مشروع الفنان، رغم ما يحمله من كسر لقواعد العمل.

وفي تلك المرحلة، كان لـ"الرجل المرآة" دور حيوي في تأمين التواصل اللازم بين العمّال والفنّان توصّلاً إلى تصميم المدينة.

طوال مدة إقامته في المصنع، دأب شادي على الحضور إلى المكان خافياً رأسه داخل مكعّب ذي مرايا من 4 جوانب، مؤدياً دور الرجل المرآة. وعند طرح الأسئلة، يُسمع صوت شادي الذي يكون انتحل رأس الشخص المستجوَب. وعندما يجيب المستجوَب، يرى رأسه فوق بدن شادي. فيدور حوار مع الذات بصوتين مختلفين، صوت السائل وصوت المجيب.

سؤالان بسيطان في الظاهر حفّزا إجابات العمّال والإداريين المشاركين، هما "هل تراني كـ"رجل - مرآة" عملاً فنّياً؟" و"ما المشاعر التي اعترتك خلال المحادثة؟"

الملفت أن المشاركين انقسموا قسمين. الإداريان نوّها بالمفهوم الإبداعي الذي أوصل إلى التجهيز النهائي. ولم يروا في الرجل - المرآة عملاً فنياً إلاّ كجزء من المسار الفني. أما العمّال السبعة فوافقوا على أنهم أمام عمل فنّي لأنه غريب ومركّب وخارج عن المألوف، يدفع المرء إلى رؤية نفسه وهو يتكلّم مع غيره. ومنهم من شبّه جلسة المحادثة بالصحوة في الصباح أمام المرآة إيذاناً بيوم جديد. وآخرون رأوا فيها دعوة إلى التسليم للفن، وإلى المغامرة وتعزيز الثقة بالنفس، وأخيراً إلى مواجهة الذات… إجابات عميقة خرجت من ذواتٍ لا علاقة وثيقة لها بالفنون.

"كتلة كتلة" أو مدينة أيوب
عندما نطلّ على نُصب "كتلة كتلة" نخال أنفسنا للوهلة الأولى أمام مدينة ديستوبية. الميلان الشديد للأسطح والزوايا الحادة تشير بوضوح إلى انتماء هذا النصب إلى المدرسة التعبيرية الألمانية بأشكالها المروّسة وظلالها القاتمة. إلاّ أنّ ألوانه السمحة، على عكس السواد والغوامق اللصيقة بالتعبيرية، تأتي لترخّي هذا الانطباع، من دون أن تخفّف من قسوة مدينة أيوب وشراستها.

وفي البداية، صنع شادي نُصبه من ركام أو من مخلّفات مصنع الأبواب، بعد التباحث من العمّال حول المفاهيم الفنّية، منها مفهوم الدائم والزائل، منتقلاً إلى "اللعب بالأشكال لبناء مجسّم فنّي،" كما قال قبل أن يضيف أن "كل عمل بشكله النهائي يخضع للتأويل والتفسير وإعادة التشكيل".

وعليه، تجسّد مشروع En bloc، معبّراً عن الكتل التي تشكّل كل مدينة، منها: تكتلات السكن والعمل، تكتلات التفسّح والنزهة، التكتلات الصناعية، التكتلات العشوائية أو أحزمة البؤس… فضلاً عن الطرقات من أزقة وشوارع وطرق سريعة تربط ما بين تلك الكُتل.

إلاّ أن هذه الأخيرة غائبة تماماً عن مدينة أيوب. وقد ترك شادي للجمهور عملية وصل الأجزاء بعضها ببعض. وذلك لأن الناظر إلى المجسّم الكبير سيرى أن الكتل مترابطة أو متراكبة هندسياً، ومنفصل بعضها عن بعض في الوقت نفسه. وما يعزّز هذا الانفصال القاسي، من دون وجود شرخ واضح وحاد، هو وجود شخوص صغيرة تمثل القاطنين، كل فرد أو مجموعة في مكان محدّد.

نراها (الشخوص) وقد تجمهرت عند الحوافي لأن الداخل قاتم وفي الخارج مساحاتهم محدودة وحوافها تشرف على الهاوية. ولذا، يشعر المتفرّج أن القاطنين يكادون أن يقدموا على رمي أنفسهم من الأعالي.

وبمقارنة المدينة المركّبة من قطع أبواب مهملة مع المبنى الديستوبي الشاهق، نجد أن شادي قد نجح في مراعاة التوزيع الديموغرافي اللصيق بالمدن، حيث نرى أن الاكتظاظ السكاني في الأسفل أو الطوابق السفلى، على عكس المرتفعات في الأعلى التي ينحسر فيها الاكتظاظ إلى حد خلوّها من السكّان، لكن كلّ يلازم حافته.

أما مساحات النزهة حيث تفترش الشخوص مساحات خضراء اللون، فخادعة لأن مشهديتها مؤقّتة، فلا بد لكل من هؤلاء أن يعود بعد حين إلى حافته وينتظر… متحلّياً بصبر أيوب ليبرأ من بلائه.

مشهدياً، قصد شادي منح مدينته الخشبية ميزة المدن الفعلية التي "تبتلع ناسها عندما تنظر إليها من بعيد. وعندما تقربها يظهر الناس وهي تختفي"، كما أوضح.

في المسيرة الفنية الذي يسلكها، يولي شادي "اهتماماً خاصاً بالشؤون اليومية لما تحمله في طياتها من حكايات"، كما قال. ولعّل وجد في مخلّفات الأبواب التي تفتح وتغلق، حكايات كثيرة شكّل بها نُصبه. وهو يولي "أهمية كبرى للمخلفات في عمليات الاندماج المجتمعي وإنعاش الذاكرة الجماعية، تحقيقاً للتوازن في الحياة وتوثيق الارتباط بالمحيط".

* للمزيد، زيارة الموقع الإلكتروني للفنان شادي أيوب أو حسابه في فايسبوك.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها