تدهشنا المسرحية عندما نعلم أنه كتبها إبسن بالنروجي العام 1882 واقتبسها آرثر موللر بالانكليزي، وأحداثها تدور في قرية نروجية صغيرة كما لو أنها صورة مصغرة عن عالم اليوم، حيث الانعطافات السياسية والاجتماعية والتحولات والتغيرات في المفاهيم التي تتحكّم بها السلطات وترسخ المفاهيم الانقلابية داخل المجتمعات وتعقّد العلاقات بين الطبقات وموقف الفرد من المجتمع والمجتمع من الفرد. رصد ابسن النزعات الفردية الأخلاقية التحررية، لا سيما دور المرأة فيها، وكتب بلغة حديثة غير مباشرة وبأسلوب عصري، لا سيما العصر الذي نعيش فيه. تدور أحداث المسرحية حول الشخصية المحورية، دكتور ستوكمان، الذي يعيش في حياته العائلية الوديعة ونجاحه المهني، محاطاً بالمحبين الذين يكنّون له كل الاحترام والمودة. ما يقلب الأحداث رأساً على عقب هو اكتشافه أن المياه التي تصل الى البيوت ملوثة، والسبب هو السدّ الذي أقيم في خراج البلدة.
أما المقاول الذي بنى السد، فليس سوى شقيق دكتور ستوكمان، عمدة البلدة الثري الذي يقابل حقائق الطبيب بتقليب الرأي العام، بمؤازرة صحيفة واسعة النفوذ، لينتهي الصراع بين الشقيقين إلى انقلاب كل من آزروا الطبيب في البداية، فيتخلون عنه منحازين إلى المصالح الاقتصادية المباشرة. حتى زوجته راحت ترجوه أن ينظر "بعين العقل" إلى مصالح عائلته وولديه، إذا كان في إمكانه أن يغضّ النظر تاركاً الأمور تسير على حالها. لكن ستوكمان الذي لن يجد مَنْ يدعمه حقاً في نهاية الأمر، سوى ابنته الصبية، سيصرّ على موقفه ولو وحيداً، ولسان حاله يقول إن أقوى إنسان في العالم هو ذلك الذي يقف وحده متصدياً للجميع... أي لكل أولئك الذين باتوا يعتبرونه "عدوّ الشعب".
ابسن في رأس بيروت
حرم الجامعة الأميركية في بيروت تحول مسرحاً ليستقبل عمل ابسن "عدو الشعب" من إخراج لوسيان بورجيلي ولبننة ندى صعب. البداية كانت عند مدخل الجامعة الرئيسي، فيتجمع الجمهور لينطلق في مجموعات ويتنقل في أماكن عديدة من المكان التاريخي البيروتي العريق، حيث الأبنية والحدائق والأدراج والفسحات المختلفة، يتخللها مشهد واحد داخلي في قاعة من العقد الاثري. أما مَشاهد وفصول المسرحية، فتوزعت في أماكن عديدة في الهواء الطلق. أهل قرية "كريستن"، التي ألف لها ابسن هذا النص، انتشروا في أرجاء حرم الجامعة الأميركية يتحاورون عشقاً ويعزفون ويرقصون ويضيّفون الزوار من أباريق زجاجية لندخل معهم في حكاية الدكتور ستوكمان، ونتفاعل مع تطور أحداثها وتحولات أماكنها وتبدلات مواطنيها الخاضعين لمبدأ حُكم المصالح والحاجة والمنفعة المادية وبسط النفوذ.
الصراع بين الأخ وأخيه، بين الأب وابنته، بين الأصدقاء ورفاق الدرب والجيران. نص موجع ومستفز ومواقف عاجزة عن مواجهة الفساد والباطل. ينجح المخرج لوسيان بورجيلي في نقل تلك الأحداث والمشاعر. وبلغة مكتومة وخطاب غير مباشر، يقدم لنا رائعة ابسن كأنها حكايات يومنا هذا وانهياراتنا المتلاحقة السياسية والاجتماعية. إدارة الممثلين احتلت الحيز الأكبر في العمل، حيث الشخصيات تتحول وتتلاعب وتنقلب على الحقائق والمواقف الأخلاقية. بدا حضور زياد نجار متماسكا ًفي دور الطبيب، وعبد الرحيم العوجي مقنعاً في دور رئيس البلدية الفاسد، وهشام خداج الملتبس بشخصية المعتدل الهارب من اتخاذ موقف واضح مما يجري.
مسرحية " عدو الشعب " في حرم الجامعة الأميركية وهوائها الطلق. طغى على العمل الإحساس بالمكان البيروتي التاريخي وأبنيته وأشجاره، وأزياء من القرن التاسع عشر (تصميم لاري بو صافي)، يصاحبه نص مُلبنَن لحكاية جرت قبل نحو قرن ونصف من الزمن. لم يكن ينقصها إلا استبدال أسماء الشخصيات النروجية بأسماء لبنانية تملأ الفراغ بما يناسب من احوالنا التي تقوم على مبدأ الفساد والتواطؤ والإفلات من العقاب.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها