في بضع دقائق فقط لخّص فيلم الرسوم المتحركة Up"(2008)" عقوداً من زواج كارل وإيلي اللذين التقيا أثناء الطفولة. كان هناك حفل الزفاف، ووقت الفراغ في تخيّل أشكال الغيوم، وحركتها، والتحضيرات للابن، وألم خسارته، وحبّ عقود من الزمن يتجلّى في عقد ربطة عنق، والموت الوشيك لإيلي وغموض وضع كارل بعد رحيله. كان - ولا يزال - تسلسلاً مونتاجياً رائعاً لسببين. الأول، أنه لا يحتاج إلى حوار أو كلمات ليكون عاطفياً. فقط صورٌ، مثل بطاقات بريدية، تصف تماماً كيف تحوَّلت حياة ذلك الرجل من بريق الشباب المليء بالمستقبل إلى الحياة الرمادية للشيخوخة. والآخر، أن المتفرّج يتعاطف مع البطل مقدّماً منذ البداية، بوحدته وحزنه، ومنذ ذلك الحين لا يتمنّى من القصّة إلا أن تجلب الفرحة لذلك البطل المسكين.
يستخدم فيلم "إنسايد آوت 2"(*) أيضاً تسلسلاً مونتاجياً في دقائقه الأولى ليخبرنا بما حدث لبطلته رايلي في السنوات التي مرّت منذ الفيلم السابق (9 سنوات بالضبط)، أي في طريقها من الطفولة إلى أبواب المراهقة حيث هي اليوم. نرى التغيّرات التي تطرأ على جسدها، والمشاجرات الأولى مع والديها، والهمسات مع الصديقات، ودخولها عالم هوكي الجليد. لكننا نسمع أيضاً الفرح - أحد المشاعر التي تتحكّم في عالم رايلي الداخلي - يتحدث بشكل أساسي عن الشيء نفسه الذي نراه. وعلى خلاف تسلسل "Up"، فهنا لا يُحكى ولا يُروى، إنما يُقال ويُخبر. الكسل البنائي، والاستسلام للتفاصيل سعياً وراء تسهيل الأمور، وانعدام الثقة في ذكاء المتفرجين... أحد أعراض الخلطة التي صنعت فيلم بيكسار الجديد والناجح جداً.
بعدما أصبحت واحدة من مخالب إمبراطورية "ديزني"، استنزفت "بيكسار" جزءاً مهماً من أفكارها الجيدة. بدءاً من الأعمال الأصلية، نظراً لوجود تكملة جديدة من شركة تعرف كيفية مقاومة إغراء الاستغلال المفرط لنجاح أعمالها. الجانب الإيجابي للأمر أنه نظراً لأنه عالم قُدّم بالفعل، لا يحتاج الفيلم إلى اختراع قواعد تشرح عمله طوال الوقت، وهو ما يُترجم إلى قصة سريعة وسلسة ومختصرة (100 دقيقة، متضمّنة التترات). هذا يمنع أي بادرة تعثّر طوال تلك الزيارة الجديدة للقيادة المركزية لمشاعر وهوية رايلي، وضعاً في الاعتبار ذلك الصولجان المضيء الذي يشبه منظومة العمل الحديث غير المفهوم ويمثّل قيم وأخلاق السيدة الصغيرة.
هذه أوقات عصيبة بالنسبة إليها: جسدها مثل سيل متدفق، واختبار هوكي الجليد في المدرسة الجديدة يساعدها على التواصل مع لاعبات أكبر سناً تحبّهن وتريد أن تضربهن في الوقت ذاته، فهي لا تعرف حقاً كيف تتصرّف ولا ماذا تفعل مع صديقاتها "القدامى" من المدرسة السابقة، اللائي لا يتمتعن بشعبية كبيرة على أقل تقدير. مع كل هذه العاصفة يأتي شعوران جديدان، الحسد والقلق. وهو أمر منطقي من حيث السرد، ولكن قبل كل شيء لأن ديزني، المهتمة دائماً بجدول الأعمال والاتجاه السائد، ترغب في الحديث عن الصحة العقلية للشباب، في خضم ظهور متزايد لإحصائيات مقلقة حول أوضاع الشباب الأميركي.
والخبر السار أن "إنسايد آوت 2" لا يسير على هذا النحو، بل يتنقل ذهاباً وإياباً بين "القلق" و"الفرح" (قائدا المعركة الدائرة داخل رايلي) لرؤية ما تؤول إليه الأمور، ما يمنحه بصمة أكثر ميلاً إلى المغامرة وليس التعليمية. في المنتصف، بالطبع، سيكون هناك بعض النكات: بعضها جيد، وبعضها الآخر أكثر من جيد، وجميعها من بطولة "نوستالجيا"، العاطفة التي يجسّدها الفيلم في شكل جِدّة مستعدة دائماً للحنين إلى الماضي ويريد الجميع الاحتفاظ بها مغلقة لفترة من الوقت. المزيد من الوقت. إذا كانت ديزني بحاجة إلى جزء ثالث من الملحمة العاطفية، فربما يؤدي السير في هذا الاتجاه إلى الحصول على نتائج أفضل.
أصوات الأبطال في النسخة الأصلية تساعد كثيراً، بالإضافة إلى المشاهد المضحكة والسيناريو المتضمّن إيماءات نوستالجيّة والرسوم المتحركة الرائعة. إذا تجاهل المرء فكرة أخذ ما يفسّره الفيلم على محمل الجد على أنه الكيفية الفعلية لعمل الدماغ البشري، فإن "إنسايد آوت 2" أكثر متعة من سابقه بل ويمثل ملحمة/سلسلة فيلمية من عدة حلقات أخرى. ربما، بحلول الجزء الرابع أو الخامس، سيتوقّف عن كونه فيلماً لطيفاً للأطفال والمراهقين ويصبح دراما معقّدة حول معاناة رايلي من حالات الطلاق ومشاكل العمل والصراعات مع أطفالها. ولكن هذه طريق طويلة. لننتظر ونرى.
(*) يُعرض حالياً في الصالات اللبنانية والعالمية
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها