الأربعاء 2024/06/26

آخر تحديث: 12:47 (بيروت)

"قناع بلون السماء"...حين ينتحل الفلسطيني هوية إسرائيلية ليقاوم

الأربعاء 2024/06/26
"قناع بلون السماء"...حين ينتحل الفلسطيني هوية إسرائيلية ليقاوم
يصل إلى نور، الذي أغلق باب السيارة مع "سماء" هامسًا بكلّ ما أوتي من لغته العربيّة: "أنتِ هويّتي ومآلي".
increase حجم الخط decrease
كانت الرواية بين يديّ وأنا غارقٌ في قراءتِها، عند سماعي برنامجًا أدبيًّا محوره نقد الروايات في "يوتيوب". وكان موضوع الحلقة نقد رواية المُعتقَل الفلسطيني باسم خندقجي، التي كنت أقرأها بلهفة وفضول لمعرفة ما إذا كانت تستحقّ جائزة "بوكر" أم مُنحت مجاملةً له وتضامنًا مع قضيّته المُحقّة ووضعه الاعتقالي، الذي لم يحُل دون إنجازه الرواية ونشرها.

وفي النقد الموضوعي، أشاروا إلى قصورٍ بسيط في الأسلوب،ركاكة الحبكة التي أدرجها في الصياغة، حيث يسجل "نور المشهدي" (بطل الرواية) رسائل صوتيّة لصديقه المعتَقل "مراد"، ليُعلِمه بنيّته كتابة رواية عن "مريم المجدليّة". ومن الممكن أن يكون النقد صائبًا، فأنا لست ناقداً، لكن تفاصيل أخرى لفتت انتباهي، لا سيما أنّه كان يكتب الرسائلَ لصديقِه بقلم الرصاص! وما أقصده هو الربط بين الحياة الثقافية وقلم الرصاص، ففي المعنى اللغوي لمصطلح "ثقف"، يُقال: ثَقَفَ الرمح، أي جعله مُسنّنًا دقيق الرأس. هذا من ناحية الشكل. فقلم الرصاص هو طويل الشكل مُسنّن الرأس. لكنّه لا يقتل كالرمح. بل يفيد في التدوين وتخزين المعرفة، وذلك من أجل الحفاظ على كلّ الموروث المعرفي. فالمعنى الرمزي لقلم الرصاص يندرج ضمن مسارين: الأصالة لجهة تاريخيّة مادّة الرصاص المُستخرجة من الغرانيت (العام 1564)، ومن ناحية أخرى فكرة الرمح المُقاوم: "فقد استغلّ أيضًا درب آلامه الاعتقاليّة، ليُحيلها إلى درب معرفةٍ وثقافةٍ تؤدّي به إلى الحرّية، حرّيته الداخليّة على الأقلّ". أزمة الهويّة هي القضيّة المطروحة في رواية باسم خندقجي "قناع بلون السماء". الشابّ الذي ترعرع في بيئة اسمنتيّة، ارتدى قناعًا مزيّفًا يخوّله الدخول في دهاليز تاريخيّة علّه يروي مخيّلته لإنجاز رواية "مريم المجدليّة" التي يحاول أن يكتبها. 

قد يكون بالصدفة فقيرًا، وهذا ليس سوى إشارة إلى الفقر الطامح دومًا إلى تغيير واقعه نحو الأفضل. والطموح هو تغيير الواقع الذي رسمه الكيان الصهيوني بأحقّية زائفة لوجود دولة اسمها اسرائيل. ومن واقع فقره، ذهب نور المشهدي إلى "محلّ البالة للثياب" ليبتاع معطفًا يقيه البرد، فشاءت الصُدف أن يجد في جيب المعطف هوّيةً زرقاء لإسرائيليّ هو صاحب المعطف الأصلي (فقط!). انتحل الاسم الإسرائيلي "أور شابيرا" لينجز مهمّة تفيده في إنهاء روايته عن المجدليّة. وهل من المُجدي انتحال هويّة زائفة لإثبات إن كانت مريم زانية أم لا؟ هل الانهماك في كتابة رواية عن مريم الزانية يسمح لـ"مراد" صديق نور أن يُقحمه في متاهات تاريخيّة؟ كأنّه يريد الثأر من الفلسطيني لتبيان أحقّية إسرائيل بالأرض؟ هل انتحل نور شخصيّة الإسرائيلي (أور شابيرا) ليتحرّر من أكذوبة إسرائيل؟ لقد صرّح نور لمراد بأنّه لم ينتحله ليتحرّر منه، بل قبل ذلك ليدركه ويتعلّمهُ. يريد أن يتعرّف إلى كيفيّة قيامه ونظره إلى الواقع من حوله! قد يكون نور وُلد من رحم الصهيونيّة بعد النكبة، لكنّه انتحل الشخصيّة ليقاوم بالمعرفة وليس بالقتل. انتحل الشخصيّة الإسرائيليّة ليلتحق ببعثة الآثار. وبحسب الأناجيل الغنّوصية، ثمة صراع بين ذكوريّة بطرس الذي يعتبرونه رئيس الكنيسة الأوّل، وبين مريم التي يعتبرونها رئيسة للكنيسة أيضًا! وبذلك يضفون شرعيّة على خطابيهما. مع الإشارة إلى أنّ بطرس قال: "دعوا مريم تغادرنا، إنّ النساء لسن جديرات بالحياة... لقد قال يسوع: أنا سوف أقودها بنفسي، لكي تصبح ذكرًا..". أبرز باسم في روايته مشكلة التاريخ التي أُوضحت غَلبة الذكور على الإناث في الرسالة الدينيّة التي يمكن تزييفها، مع أن الدين كرّم المرأة بإرسال مريم، وبمنع وأد البنات في صحراء الإسلام.

"وبعد الإطّلاع على السياق التاريخي، بعدما صُلب يسوع، يمكنني ملاحظة أنّ اختفاء المجدليّة أو إبعادها عن المتن الإنجيليّ مرتبط إلى حدٍّ ما بدعوة بطرس للتلاميذ ما بعد صلب يسوع من أجل اختيار رسول بدلاً من يهوذا الأسخريوطيّ الذي سلّم يسوع لليهود".

لعبة نور هي أن يُدرك الانفصال أو فصل الهويّة المزيّفة عن الحقيقيّة، فيقول: "السرّ يكمن في المرآة. المرآة هي المعادلة، هي التفاصيل.. هي الكائنان أحدهما مُسيطر والآخر خاضع. أنت أور مسيطر، وأنا نور خاضع.. ولهذا يجب أن أحطّم المرآة". وعلى الرغم من عدم تصديقه: "أنت عاجز عن تحطيم نملة"، تحاول الهويّة المزيّفة فرض نفسها على الحقيقيّة بالقوّة والعنف. وفي خطاب ديني موجّه: "قال لنا بطرس: دعوا مريم تغادرنا، إنّ النساء لسن جديرات بالحياة، لقد قال يسوع: أنا سوف أقودها بنفسي، لكي تصبح ذكرًا، فربّما تتحوّل إلى روح حيّة تشبهكم أيّها الرجال، لأنّ كلّ امرأة تحوّل نفسها إلى ذكر ستدخل ملكوت السماء"... "وعليه، فقد انتصر النهج الذكوريّ على النهج الأنثويّ، واختفت المجدليّة بوصفها حضورًا عرفانيًّا من المتون الدينيّة الانجيليّة الرسميّة".

احتار نور المشهدي في كيفيّة تضامنه مع "حي الشيخ جرّاح" الذي تعرّض لهجمة شرسة من الصهاينة. هل من المعقول أن يتضامن جزءٌ من شعبٍ مع جزءٍ آخر يعاني الاحتلال؟ التضامن بهذا الشكل مرفوض، فالشعب، ليتضامن مع نفسه، وجبت عليه مقاومة الاحتلال. ويضيف أن التضامن بهذا الشكل كمن يكون "ضيف شرف على النضال"! وهل يكون إحياء ذكرى النكبة بإطلاق بالونات سوداء بعدد سنوات النكبة السبعين؟ إخفاء الهويّة بدأ بحسب نور: "اللعبة بدأت منذ أكثر من سبعين عامًا... لإخفاء بقايا معالم قرية أبو شوشة التي هجَّرتم أهلها وقتلتموهم إبّان نكبة 1948". لا بل استرسلوا في تمجيد هويّتهم المزيّفة من خلال النصب الذي أقاموه تخليدًا لأرواح الأطفال اليهود التي أجهز عليهم هتلر في محرقته!

والسؤال الجدير الآن: كيف لدولة متقدّمة أوروبيّة مثل ألمانيا، تبني سياستها على التكفير عن ذنب هتلر مع اليهود، أن تدعم دولة لغتها الوحيدة هي القتل وصنع المجازر؟ بدءًا من النكبة 1948.. دير ياسين.. حتّى غزّة الآن؟ فلا ترى الدُول المُتقدّمة "قتلاً" إلّا الموجّه ضدّها؟ ومن بعدهم الطوفان!؟ انزعج من نفسه بانتحاله هويّة أور الصهيونيّة، حين عرّفت سما الفلسطينيّة عن نفسها بوضوح! كم كان يحلُم بأنّ يصرخ عاليًا أنا نور المشهدي الفلسطيني الذي يرغب باسترجاع تاريخه المسروق! ولم ينس نور أن يشير إلى سبب الاستعمار التاريخي حيث وصف رئيس البعثة الأستاذ الجامعي "ديفيد آدامز"، فشبّهه باللوردات اللندنية "أحفاد بلفور" بلباسه الخاكي، والأقرب إلى اللباس العسكري. ولم ينس أن يشير إلى التاريخ البعيد، فورد هذا المقطع: .."في أواخر القرن التاسع عشر، انتقل نفر من سكّان أمّ الفحم إلى اللجُّون، لاستغلال أراضيها الزراعية.. وما لفتني في هذا الجانب، هو استعمال بعض سكان القرية للحجارة التي استخرجت من أبنية موقع تل مجدو الآثاريّ على يد البعثة الألمانيّة في العام 1903 لبناء مساكن جديدة لهم". وتلاشى تراث اللجُّون الآثاريّ بلا تدوين ولا تنقيب، بعدما قام المستوطنون الصهاينة بتجريف أراضيها وخرائبها من أجل تمهيدها للزراعة. كان حضور سما الفلسطيني ساطعًا في وجه كندي عجز أثناء التنقيب عن تهجئة حروف فلسطين، مُعلنًا موت الضمير الغربي الذي يتضامن مع كيان مُزيّف (إلى الآن). وإيمان الغرب بأحقّية "إسرائيل" في الوجود ورغم تزوير التاريخ، إلّا أن هذا لم ينجح في إخماد صوت سما الفلسطيني المُحقّ.

أمضى نور أسبوعه الأوّل منغمسًا في الهويّة المنتحلة وقد كلّفه ذلك إغفال قطع فخّارية فلسطينيّة مهشّمة ليكشف عن قطعهم الفخّاريّة.. وهو في أمسّ الحاجة إلى من يلمّ قطعه ويعيدها إلى اصلها. وقد أمضى ساعات بين التنقيب والاستراحات والأحاديث محاولاً بصفته "الأشكنازيّة" التخفيف من حدّة تهجّم أيالا على سما بأنه يجب وضع حدّ صهيوني لسما، قائلاً: ألا تؤمنين بالديموقراطيّة؟"
- "أيّ ديمقراطيّة؟ ما للعرب والديمقراطيّة؟!"
- "هكذا أنتم دومًا أيّها الأشكنازيون تتشدّقون بالديموقراطيّة والليبراليّة واحترام رأي الآخر.. أمّا على الأرض فأنتم أشدّنا قبليّة".

في غالبية الحوارات التي أجرتها أيالا (مع أو بحضور سما)، تُظهر حدّية الشخصيّة العدائيّة، نتيجة تشويش مُبطّن، ناجم عن خلل في بناء الهويّة من الأساس، فما بُني على زيفٍ فهو مُزيّف. وعلى الرغم من صعوبة ومشقّة الانتحال (نفسيًّا، سلوكيًا)، إلاّ أنّ هدف نور الأساسي الذي وضعه هَوّنَ عليه مشقّة تحمّل الشخصية المُنتَحلة: "في تحوُّل "نور" إلى "أور"، وفي انضمامه إلى بعثة تنقيبِ إحدى المستوطنات، تتجلّى فلسطين المطمورة تحت التربة بكلّ تاريخها". لقد حاول الكاتب باسم خندقجي في الرواية، استعارة الواقع، ففي الواقع، ما يفعله الإسرائيليون، هو تزوير التاريخ، تاريخ فلسطين، بإلصاق اللونين الأبيض والأزرق على السرديّة التاريخيّة الفواحة بعبق القطع الفخّارية التي زرعها تاريخ حضارات مرّت بأرض فلسطين. قناع نور، لم يكن سوى لإقناع العالم بلغة حضاريّة ليست "بندقيّة"، علّه يُسقط قناع "أور" ويصل إلى نور، الذي أغلق باب السيارة مع "سماء" هامسًا بكلّ ما أوتي من لغته العربيّة: "أنتِ هويّتي ومآلي".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها