تأتي الأولى في القرآن، حيث لم يرد ذِكرها في التوراة أو الإنجيل لوقوع أحداثها بعد عهد المسيح، وعظتها واضحة ومختصرة؛ ينجي الله عباده المؤمنين ثم يبعثهم عبرة للناس. والثانية درس تعليمي، يتقيد سردها بالحكمة القرآنية بلا زيادة أو نقصان، على نحو ما جاء في أعمال عبد الحميد جودة السحار وغيره ممن سلك دربه. أما الثالثة، فاستفهام إنساني، يعيد المبدع من خلاله اختبار ذلك الدرس الإرشادي بعد إخضاعه لشروط الفن، مثل رواية "أهل كهف" لتوفيق الحكيم، التي قرر عمرو عرفة وأيمن بهجت قمر باقتباسها للسينما أن يعيداها -عامدين- لخانة الإجابة، وكأنهما يأبيان أن يملك الفنان أي أسئلة.
لا يحدّد النص القرآني زمانًا أو مكانًا أو عددًا للذين اتخذوا من الكهف ملاذًا آمنًا من حاكم ظالم يبطش بغير الساجدين لآلهته، لكن الحكيم الذي انتهى من نصه المسرحي ذي الفصول الأربعة في العام 1929 ونشره في 1933، اختارهم ثلاثة ورابعهم كلبهم. فسمّى الأول "مرنوش"، والثاني "مشلينيا"، وجعلهما وزيرين لإمبراطور وثني في عهد اضطهاد المسيحية (وهو العهد الأدق حسب التفاسير)، ثم أتمهما براعٍ يدعى "يمليخا" وهو الذي نصحهما باللجوء إلى الكهف وتبعه كلبه "قِطْمِير" (اسم لمقدار شديد التواضع، ويعني عند وصف الكائنات: الهشاشة والضعف والضآلة). فأما مرنوش فمؤمن حديث العهد برسالة المسيح لاقترانه الظرفي بمسيحية، وأما الثاني فمسيحي مولدًا واسمًا، تعلق قلبه بابنة الإمبراطور وصودف أنه كان سببًا في هدايتها إلى الرسالة السماوية، ثم يأتي الراعي أقرب إلى متصوف منه إلى مؤمن بسيط.
ووفق تلك الأشكال الثلاثة من الإيمان المتدرج، يطرح الحكيم أفكارًا جديرة بالانتباه عن الإيمان والكفر والحب والزمن والحياة والفناء والطهر والقداسة، لمَّا يجعل "بريسكا" ابنة الامبراطور، قديسة في نظر العامة، وهبت نفسها إلى الله بميثاق أزلي، وقد ارتدت صليبًا ذهبيًا صاغه على صدرها السيد المسيح الذي زارها في الحلم، في حين أنها لم تبتغ غير عقد أبدي بالزواج من مشلينيا الذي شكل بيديه الصليب الذهبي هدية لها. وكذلك يصور سكان الكهف الثلاثة -الذين ترقب الناس عودتهم، لأجيال متعاقبة، كي يمنحوهم الخلاص- مثل مجموعة تائهة من المشككين ضلوا الطريق في بحثهم عن معنى الوجود والإيمان. ثم تطرح تلك الدراما الذكية في بنائها الحواري وأفكارها الوجودية، سؤالًا ربما يشغل البشر جميعهم على اختلاف عقائدهم: ماذا لو عاد المسيح/ الإمام الغائب/ المهدي المنتظر/ زرادشت/ غودو؟ وماذا لو بعث نبي جديد؟ هل يدرك زمنه ويتسع له العالم ويفهمه الناس؟
أما نص بهجت قمر وعمرو عرفة، الذي تبدأ صورته بمعركة طاحنة، وتمتلئ مشاهده بآخريات مجانية لا تقل عنها دموية، فلا يطرح غير رسالة شديدة الوضوح؛ أن دمار العالم نتيجة حتمية لاقتران الدين بالسياسة، محذرة، في تأويل وحيد، من خطورة وصول الجماعات الدينية إلى الحكم، كما لو أنه لا حاكم يقف الآن أمام شعبه ليتحدث، كلما سنحت له الفرصة، مؤكدًا أن الله اختاره لأداء مهمته، وأنه سيقف أمامه فخورًا بما قدم، عندما يأتي موعد حسابه يوم القيامة!
إجري... إجري.. إجري
هناك مسلسل إذاعي شديد اللطف، كتبه الراحل بهجت قمر، من بطولة فؤاد المهندس وشويكار، يبدو أن أيمن الابن لا يعرف منه غير اسمه "إجري.. إجري"، إذ يسوق الأحداث كلها في نصه السينمائي نحو الإفصاح عن الغرض النهائي لعمله من دون لحظة يقف فيها فيلتقط أنفاسه ويتأمل فعله.
يحتاج بهجت وعرفة إلى أكثر من ثلاث شخصيات، فالعمل الذي يبتغيان إنتاجه يجب أن يكون ضخمًا، أضخم من أن تتسع له جدران مسرح الحكيم التأملي، لذا لا يبدو الرقم خمسة كافيًا أيضًا، هما يحتاجان الفرقة في صورتها القصوى، فيختاران سبعة وثامنهم كلبهم: قائدا الإمبراطور، بالإضافة إلى شيخ وتوأم ورضيع، هم عدد الذين قبض عليهم حرس الإمبراطورية، بعدما وجدوهم فورًا -يا للدهشة- في مكان تعبّدهم السري! ثم ينضم إليهم الكلب وصاحبه "مليخا (دون ياء)" الذي ينطق اسمه "قَطمير" (بفتح القاف، وهي مفردة لا تحمل أي معنى).
ولأن الصانعَين الرئيسيَين لم يُعنيا بشيء غير إيصال تلك الرسالة، ولأنهما أيضًا يخشيان إثارة حفيظة الدولة السنية المحافظة، فإنهما يصوغان بتدليس مقصود صورة مشوهة لعالم نصهما. صورة يظهر فيها راهب، أو رجل صالح، يبشر بالرسالة العقائدية، فيسميها الدين (وهو لفظ مستقى من القرآن) بدلًا من الإيمان المسيحي حسبما يسميه معتنقوه، ويذكر اسم المسيح متبوعًا بـ(عليه السلام)، من دون إشارة صريحة للصليب سواء في عصر الاضطهاد أو بعده، فيختفي بالضرورة ذلك الموجود على صدر "بريسكا"، لأن عيسى بن مريم "ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم".
وفي استسهال غريب، يخرج اللاجئون من الكهف من دون أن يظهر للزمن أي تأثير في هيئاتهم سوى بعض الأوساخ على وجوههم وملابسهم المتهالكة، وكأن "ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعًا" لم تصنع أي فارق في شعرهم وأظفارهم، وذلك قبل أن يمتثلوا جميعًا للنظافة، فيظهر "سبيل" (القائد ذو الأصول العربية -دون سبب مفهوم) مرتدياً سروالًا بسحّاب قبل اختراعه بأحد عشر قرنًا، ثم يذهب بولا (وهو نظير مرنوش في مسرحية الحكيم) ليبحث عن عائلته فيسأل أحد العابرين عن أسرة كانت موجودة هناك "سنة 250".
فأي 250 يعنيها بولا؟ وأي تقويم يقصد؟ هل يمكن أن يسأل شخص آخر عن التقويم الميلادي في عصر لا يعترف بالمسيح؟ أم كان يشير إلى العام 250 الروماني، الذي يوافق 500 سنة قبل ميلاد المسيح نفسه.
أما الأفدح والأكثر إثارة للدهشة، فأداء خالد النبوي (سبيل) الذي لا يعكس أي شعور على الإطلاق: لا دهشة، أو خشية، أو كراهية، أو وله. كان هو نفسه خالد النبوي، في كل مشهد؛ وزيراً أو قديساً، محباً أو مبعوثاً للحب.
وإذا سلمنا أن اختيار النبوي لأداء ذلك الدور عائد إلى كاريزما يتحلى بها كقائد، وإذا سلمنا أيضًا أن المقاتل يمكن أن يتجاوز الخمسين من دون زواج، فكيف نسلم بأن تلعب غادة عادل دور فتاة في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمرها على الأكثر، لتؤدي الأميرة بريسكا التي أدركت سن الزواج وفق تقاليد ذلك الزمان.
انتبه فإن الرسالة عميقة
عمومًا ثمة دهشة أكبر من ذلك كله، وأسوأ من الأداء السطحي والمباشر لمحمد فراج وإسمَي شخصيتيه مفضوحي المعنى (نور/ونار)، تنتظر المتلقي في مشهد ما قبل النهاية!
يقرر إمبراطور البعث (الجديد)، أن يتخلص من أمراء المدن شركائه في الحكم، من دون أن يضع أي استراتيجية لتأمين ذلك القرار المصيري، باستثناء خمسة من آل الكهف الذين هبوا من تلقاء أنفسهم رفقة ثلة من الجنود للذود عن هجوم لا يعلم الإمبراطور -المشغول بمؤامرته- شيئًا عنه.
ألم يقرأ قمر وعرفة عن مذبحة المماليك -مثلًا- وكيف وقف جنود الباشا بأسوار القلعة وأبوابها للتأمين وملاحقة الفارين؟
قرر الإمبراطور خنق أمرائه بخيط الحرير من خلف، وبالمناسبة فإن الدولة العثمانية التي تأسست العام 1299 م، هي أول من لجأ إلى الاغتيال بخيوط الحرير، وقصرته على أفراد الأسرة المالكة حصرًا، لأنها عدت دماءهم أرقى من السفك.
ثم أخيرًا، وحمدًا لله على ذلك، يأتي دور الاثنين المتبقيين، الشيخ وحفيده الرضيع، السادس والسابع في حسبة أهل الكهف، اللذين لم يغادراه طوال الأحداث، ولم يكونا فاعلين محوريين بأي من الصور فيها.
بعد أن يعود إلى الكهف من نجوا من المذبحة، أولئك الذين رفضوا أن يكونوا أداة تغييب في يد رجال الدين والحكام، يظهر الدور الفعلي للشيخ، حين يقرر تسليم الطفل الرضيع لبريسكا، وقد أطلق عليه اسم "إنسان"! طبعًا لأنه، الإنسان والرضيع على السواء، الوحيد الذي يستحق أن يحصل على فرصة أخرى، ويعيش حياة لم تسنح له من قبل، حياة لابد له فيها من أن يصنع الفارق.
غير أن ذلك الطفل -يا للعجب- سرعان ما يشيخ من دون أن يُحدث أثرًا، أو يلعب دورًا لنهضة البشرية، إلا سرد حكاية أهل الكهف وما كان من خبرهم، قبل أن يلقي القبض عليه أعوان إمبراطور جديد. وكأن ستة الكهف باستثنائه لم يحدثوا ذلك ببعثهم، وكأنه لا تزال هناك حاجة ماسة ودائمة لدق ناقوس يحذر من "فزاعة" أبدية!
مُجبَر... مُخْبَر... مُخْبِر
لا غاية للفن غير طرح الأسئلة، والتلقين إلا تكريس الإجابات.
وأن تدق الناقوس، فإنك سائل، وأن تلبي نداءه فأنت مجيب، لذا السؤال تمرد والإجابة إذعان؛ السائل حر والمجيب مُقيد، ولعل اللغة لا تتحرج في دهاء أن تحوّر مفردتين مثل "مُجبَر" و"مُخبَر" إلى "مُخْبِر"، عندما تصف كل مذعن للسلطة يؤدى وظيفة النقل أو التلقين. ومن ذلك الاشتقاق اللفظي نستطيع، بحسن نية، ودقة في الوقت نفسه، أن نصف العمل السينمائي "أهل الكهف" بـ"المخابراتي"، وصنّاعه بـ"المخبرين"، لأنه لا يمنح المتلقي غير إجابة، وحيدة، ومكررة، وضحلة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها