الأحد 2024/06/23

آخر تحديث: 10:05 (بيروت)

"لا أرض أخرى".. الكاميرا سلاحاً بمواجهة التهجير

الأحد 2024/06/23
"لا أرض أخرى".. الكاميرا سلاحاً بمواجهة التهجير
يتناول الفيلم الاحتلال في الضفة الغربية وإخلاء القرى الفلسطينية.
increase حجم الخط decrease

التهجير والتجويع والإبادة أسلحة مألوفة في عُرف الكيان الصهيوني. بديهيات صار التعرّف عليها أسهل الآن أكثر من أي وقت مضى، كوننا شاهدين على أهوال الحياة اليومية في ظلّ الاحتلال والمآسي الصارخة التي يفضي إليها. وليس الأمر مقصوراً على غزة التي تعاني منذ شهور حرباً إبادية مجرمة، بل أيضاً كامل الوجود الفلسطيني على أرض فلسطين التاريخية. من هنا تأتي أهمية فيلم "لا أرض أخرى" لباسل عدرا ويوفال أبراهام، المتوّج مؤخراً بمهرجان شيفيلد الوثائقي.

يُظهر هذا الفيلم الذي أنتجته مجموعة فلسطينية إسرائيلية تدمير "مسافر يطا" في الضفة الغربية المحتلة على يد الجنود الإسرائيليين، والتحالف الذي ينشأ بين ناشط فلسطيني وصحافي إسرائيلي. تقع مسافر يطا جنوبي الضفة الغربية وتضمّ عدة قرى وتجمعات فلسطينية يعود تاريخها إلى مساكن القبائل البدوية القديمة. كانت المساكن الأصلية عبارة عن كهوف منحوتة في الصخر ولا تزال موجودة حتى اليوم، ولكن بطبيعة الحال، فضّل سكّان المنطقة، في السنوات الأخيرة، الانتقال إلى مساكن أكثر راحة؛ فزودوا أنفسهم بالكهرباء ومياه الشرب. وبالإضافة إلى ذلك، أنشأوا مدرسة.

في أحد هذه التجمعات، نشأ ويعيش باسل عدرا، المحامي الشاب الذي وثّق منذ فترة طويلة انتهاكات الجيش الإسرائيلي والسلطات الإسرائيلية ضد السكّان الفلسطينيين. وفي السنوات القليلة الماضية، انضمّ إليه في جمع ونشر الأخبار الصحافي الإسرائيلي يوفال أبراهام. تنشأ صداقة بين الإثنين. لكن بينما يستطيع يوفال التحرك بسيارته بحريّة، وعبور الحدود والعودة إلى إسرائيل في غضون ساعات قليلة، يُمنع باسل من أي حركة: ليس لديه أوراق هوية، وبالتالي لا يستطيع التحرّك. وفي وضعه نفسه، يعيش سكان المنطقة والأراضي المجاورة الآخرون: جميعهم يعيشون تحت الاحتلال العسكري. وقد أعلنت إسرائيل المنطقة كمنطقة تدريبات عسكرية خاصة بها، ونتيجة لذلك، حُرمت العائلات من حق العيش على تلك الأرض التي لم يعرفوا غيرها قبل أن يأتي إليهم ضابط أوكراني أو مجنّدة إثيوبية في جيش الاحتلال لإجبارهم على تركها.

تصل الجرافات والجنود الإسرائيليون في كل ساعة من النهار والليل، وهذا مستمر منذ سنوات، مع توالي إصدار تصاريح مصادرة الأراضي وأوامر الهدم من قبل بعض المكاتب الحكومية. تُجلى العائلات دون أن يهتم أحد بإيجاد سكن بديل لهم، وتضطر عائلات بأكملها إلى الخروج من منازلها. تُقطع أنابيب المياه، وتُصادر مولّدات الكهرباء بشكلٍ غير قانوني. وحتى مبنى المدرسة (المقامة بجهد وكدّ الأهالي) يُسوّى بالأرض بواسطة الجرّافات، بعد أن أُجبر الجنود المدججين بالسلاح الأطفالَ المذعورين على الخروج من فصولهم الدراسية. في ظل غياب سقف يأويها، تعود بعض العائلات للسكن في الكهوف القديمة، بينما يحاول آخرون - في ستر الليل - بناء ملجأ للطوارئ. لكن مداهمة عسكرية لجيش الاحتلال تمنعهم من إكمال العمل.


في المنطقة نفسها، وبينما انخفض عدد القرى الفلسطينية، ازدادت أعداد مستوطنات المستوطنين الإسرائيليين، الذين يزداد استقرارهم في المنطقة ببطء وبمساعدة الجيش. وهم أيضاً يشاركون في السياسة الاستعمارية التي تنتهجها الحكومة. تتناوب العمليات العسكرية مع - في كثير من الأحيان بدعم من الجنود أنفسهم - زيارات متخفية للمستوطنين الملثمين الذين يرشق العديد منهم المنازل وساكنيها الفلسطينيين بالحجارة. لا يبقى أمام الفلسطينيين، المعرَّضين للاستبداد بهذه الطريقة الظالمة، سوى تحمّل الهجمات المستمرة - التي عادة ما تمرّ دون عقاب، حتى إن نتجت عنها إصابات أو وفيات - ومحاولة المقاومة. لكن لكل إنسان طاقة، خصوصاً بمواجهة قطعان متوالدة من المستوطنين الهمجيين. لذلك، عندما يفيض بهم الكيل ولا يمكنهم تحمّل المزيد، يضطر أهل مسافر يطا إلى ترك أرضهم والانتقال إلى المنطقة الوحيدة التي يُسمح لهم فيها بالعيش في سلام: قطاع غزة المكتظ. ليس هناك أرض أخرى للذهاب إليها. لا أرض أخرى، في الواقع.

الكاميرا، بطل الفيلم الأساسي، تسجّل هروب المدنيين، والجرّافات في عملها التدميري، والجنود يدفعون المصوّرين، حتى تحجب يد إسرائيلية تدفّق الصور، ويضطر المصوّر إلى الهروب، وتتحوّل الأصوات إلى صراخ وتضيق الأنفاس. وثيقة بصرية سمعية خام ومؤثرة تسجّل صور عنف مشابهة للعديد من الصور الأخرى التي تُتداول ويجري التعليق عليها في وسائل التواصل الاجتماعي. كان هذا الوضع معروفاً منذ سنوات، كما كان معروفاً منذ سنوات أن الحكومات الغربية تسامحت معه أو تجاهلته. بالتالي أن يقرّر مهرجان دولي مثل مهرجان برلين السينمائي (حيث ظهر الفيلم للمرة الأولى، في شباط/فبراير الماضي)، في هذه الأوقات، عرض الفيلم الذي نتحدث عنه، فهذا تصرّف شجاع، حتى وإن كان ضئيلاً(*).

يُظهر لنا باسل ويوفال في نشاطهما السلمي مخرجاً ممكناً وإن انتفت إمكانات حدوثه في الوقت الراهن (ولأفقٍ مستقبلي غير معلوم): مهما كان الأمر صعباً، وبعيداً من الانتهاكات، وبعيداً من الضحايا، وبعيداً من مشاعر الانتقام، فالطريق إلى تعايشٍ محتمل موجود، وصداقتهما وتعاونهما يثبتان ذلك. تعود آخر لقطات المجموعة الفلسطينية الإسرائيلية – المكوّنة من ناشطين آخرين، بالإضافة إلى يوفال وباسل، لتصوير وإنتاج "لا أرض أخرى" - إلى الصيف الماضي، أي قبل هجوم "طوفان الأقصى" في أكتوبر/تشرين الأول 2023. وبالتالي فالقمع والعنف الذي تعانيه عائلات مسافر يطا لا علاقة له بتطورات أخيرة، بل يعتمد على قرار إسرائيل بإساءة استخدام سلطتها، بطريقة غير عادلة على الإطلاق، على الأراضي التي احتلتها. وهذا الفيلم الوثائقي الصغير والشجاع يوضّح ذلك بجلاء.

 

(*) فاز الفيلم بجائزة أفضل فيلم وثائقي في المهرجان، كما فاز بجائزة الجمهور في قسم "بانوراما".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها