الإثنين 2024/06/10

آخر تحديث: 13:22 (بيروت)

"بذرة التين المقدّس" لمحمد رسولوف: إيران ثائرة وباطشة ومجنونة

الإثنين 2024/06/10
increase حجم الخط decrease
لا يمكن إنكار أهمية سينما محمد رسولوف اليوم، السينمائي المحكوم عليه بالسجن في إيران - بعد إدانة أخرى تلقّاها من المحكمة الثورية - والذي وجد طريقة لمواصلة إنتاج الأفلام سرّاً والهروب من بلاده لحضور مهرجانات سينمائية. باعتبارها إدانة للنظام المنحرف والقاسي، الذي يكاد يكون فاشياً، فإن أفلاماً مثل "بذرة التين المقدس" يمكن أن تندرج ضمن فئة الأفلام "الضرورية"، تلك التي يوصى بها بسبب موضوعها وليس بالضرورة لمزاياها السينمائية. ولعلنا هنا نواجه إحدى تلك الحالات. حين عرضه للمرة الأولى في مهرجان كانّ الأخير، رجّح النقّاد فوز رسولوف بإحدى الجوائز المهمة في المهرجان العتيق، ليس بالضرورة بسبب الجودة السينمائية لاقتراحه، ولكن لما تعنيه هذه الجوائز كموقف سياسي ومطالبة دولية.

يرتبط إطار الأحداث بمقتل مهسا أميني، التي راحت ضحية عنف قوات الأمن والتي أثار مقتلها حركة نسائية ضخمة في أنحاء إيران. حينها، ترقّى إيمان (ميساج زاري) إلى منصبٍ مهم كقاضي تحقيق في المحكمة الثورية في طهران، وهو منصب سيمنحه الأمان المالي والنفوذ السياسي على الأرجح مدى الحياة. زوجته المطيعة نجمة (سهيلة جولستاني) سعيدة بالأخبار والمشهد الأول يتضمّن إخبار ابنتيهما رضوان وسناء (مهسا رستمي وستارة مالكي) بالخبر، ولا يبدو على الفتاتين حماس مماثل لوالديهما.

يكتشف إيمان أن منصبه الجديد يعني الموافقة على أحكام الإعدام التعسفية من دون إعادة النظر في القضايا، إذ في ظلّ أجواء المسيرات والاحتجاجات تتراكم أحكام السجن. بالإضافة إلى ذلك، ولأسباب أمنية، يجب عليه أن يحمل مسدساً، وهو أمر غير معتاد عليه. يُقدَّم المسدس في الحبكة بطريقة لافتة، للتأشير إلى إمكانية استخدامه لاحقاً بطريقة مركزية ومؤثرة. في خضم كل هذا، تدعمه زوجته، تهدهد شكوكه، تطمئنه، تعد له ملابسه، ووجباته، وحتى إنها تحلق له كل صباح. لكن بناته بدأن ينظرن إلى كل شيء بعين الريبة، وخاصة الكبرى رضوان، التي تذهب إلى الجامعة وتشهد ما يحدث هناك، في الشوارع وعلى شبكات التواصل الاجتماعي. الشيء الذي يمسّها بشكل أكبر عندما تتعرّض صديقتها صدف (نيوشا آخشي) للإصابة على يد الشرطة أثناء مرورها بمظاهرة. ومن ثم يُقبض عليها ولا يُعرف مكان وجودها.



تطلب الأمّ من ابنتيها تجاهل دراما هذه الفتاة - فهي لا تريد أن تضع زوجها في مشكلة - لكن الأمر صعب عليهما. وهكذا، بينما يستقر إيمان في دوره كقاضٍ صارم ضد أعمال الاحتجاج، تقف رضوان في وجهه بشكل متزايد، الأمر الذي يقلق راحة الجميع ويولّد توتّراً عائلياً غير مسبوق. عندما يبدو أن كل شيء سيسير في اتجاه الفتاة المعتقلة، فجأة يختفي مسدس إيمان ويأخذ الفيلم منعطفاً حاداً: منذ ذلك الحين فصاعداً سيتحرّك كل شيء في سبيل العثور على السلاح المختفي، وعندما يستعصي هذا الهدف، تتوجّه الجهود نحو اكتشاف أي من أفراد الأسرة أخفاه. يشتبه الرجل في زوجته وبناته، ويفرض إجراءات صارمة تؤدي إلى توتّر الروابط الأسرية وتفجير التناقضات والصراعات في المجتمع الكبير داخل الجدران الداخلية لمنزله الصغير.

الخاصّ سياسي، نعم، لكن الحقيقة أن "بذرة االتين المقدس"، مع مدة عرضه التي تبلغ ثلاث ساعات تقريباً، يعاني سلسلة من المشاكل المهمة في الجانب السينمائي البحت، بدءاً من نصّه المليء بالفجوات والثغرات والأهواء السردية، إلى الإنتاج الذي يقترب من حدود الاستطراد المجاني، وغياب التناسق، وحتى الإرباك. فيلم رسولوف عبارة عن فيلمين أو ثلاثة أفلام في واحد يمتد لثلاث ساعات تقريباً يحاول تقديم تأملات حول كيفية تأثير الوضع السياسي في إيران على حياة الأسرة المعنية. وعلى الرغم من أن الرسالة تظهر عبر الشاشة وتتضح بمرور الوقت، فإن طرق الوصول إلى هذه النتيجة غير متسقة على أقل تقدير، إن لم تكن متواضعة.

وهذه ليست سوى بداية سلسلة من الظروف الغريبة على نحو متزايد، التي يتعيّن على أربعتهم - معاً أو بشكل منفصل - المرور بها بعد الاختفاء الغامض للمسدس المعني، ظروف تؤدّي وظيفتها باعتبارها صدى داخلياً وعائلياً للخلافات القائمة في جميع أنحاء البلاد، خاصة فيما يتعلق بقضايا الأجيال. ولكن بعد ذلك، عندما تبدأ الأمّ في الشك في "إخلاص" زوجها، تظهر أصداء أخرى لجوانب العلاقة بين الرجل والمرأة.

المنعطفات الدرامية للفيلم متقلبة، وبعيداً من الصور القوية التي ينتجها رسولوف (استجواب الشرطة للبنتين، دون الذهاب إلى أبعد من ذلك) أو تلك التي التقطتها شبكات التواصل الاجتماعي خلال أعمال الاحتجاج في العام 2022، يتقدّم السرد دون تسرّع أو توقف نحو أماكن أقل توافقاً مع الاقتراح الأولّي. تختفي الفتاة "المفقودة" مرة أخرى - هذه المرة من الحبكة - ويتحوّل كل شيء إلى صراع على السلطة داخل الأسرة، مع أبّ يتحوّل من عاقل إلى عنيف في وقتٍ قصير جداً، وأمّ تقوم بتغيير جذري في حياتها في وقتٍ أقصر، وابنتان ينتهي بهما الأمر بأدوار مختلفة تماماً عما بدت عليه في البداية.

محمد رسولوف مخرج سينمائي جيد، و"بذرة التين المقدس" فيلم قوي وشجاع، ولكن لو أنه فاز بالسعفة الذهبية كما توقّع كثيرون، فسيكون ذلك بسبب قضايا سياسية أكثر من قيمه السينمائية البحتة. فرّ المخرج من إيران (حيث حُكم عليه بالسجن لمدة ثماني سنوات والجَلد) ووصل إلى قصر المهرجان ليحظى بواحدة من أكبر التصفيقات في الطبعة الأخيرة. يكشف أحدث أعماله بشكل فظّ عن سوء إدارة العدالة، وتأثيرات النظام الأبوي على المستويين الاجتماعي والأسري، والانقسامات العميقة بين الأجيال والقمع العنيف، خاصة ضد النساء اللاتي يناضلن ضد الثيوقراطية والاستخدام الإلزامي للحجاب، ولكنه أيضاً طويل بلا لزوم، ويعاني مشاكل واضحة في النصّ وفي بعض الأحيان يكون العرض مسطّحاً إلى حد ما في بعض المشاهد الداخلية.

من المؤكد أن هذا الفيلم صوِّر سراً إلى حد كبير، لكن بالنسبة إلى قصة تشويق درامية، تبدو هذه القيود أحياناً مرهقة. يرجع السبب في الغالب إلى أن الفيلم بأكمله تقريباً تدور أحداثه في منزل العائلة الأنيق، وتأتي لحظة يتوقف فيها تصوير هذا المكان البرجوازي عن إثارة أدنى قدر من الاهتمام. حين يغادر فضاءه الداخلي المغلق، يستعيد الفيلم بعض الهواء - طرق، شوارع، يبني منها بعض التشويق في تلك اللحظات - لكن المشكلة أنه لا ينتهي به الأمر إلى بناء أي شيء ذي قيمة كبيرة أيضاً، بل يراكم سلسلة من التشابكات اللائقة بعملٍ كوميدي. بالتأكيد "بذرة التين المقدس" يملك قيمة باعتباره إدانة، وترجمة فنية للوضع السياسي المثير للقلق والمؤلم للغاية في إيران – بالنسبة للنساء ولجميع الإيرانيين - ولن يكون غريباً أن ينتقل تأثير كل هذا العبث والقمع إلى الفيلم نفسه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها