تستقبل "غاليري صالح بركات" (كليمنصو_بيروت) معرضاً للفنان أسامة بعلبكي، أطلقت عليه عنوان "ضوء داخلي". المجموعة المعروضة، المؤلفة من حوالى 50 عملاً، هي جزء من مجموعة أكبر من حيث العدد، كان الفنان عمل عليها سنوات أربع. اللوحات التي يتضمنها المعرض هي ذات أحجام مختلفة، تتراوح بين الكبيرة والمتوسطة، وهي مشغولة بمادة الأكريليك على القماش.
يتابع أسامة بعلبكي، في معرضه الحالي، الخط الذي اتبعه في معارض سابقة. لكن هذا الحكم يبقى ناقصاً ما لم نضف أن أسلوبه يسير على نحو متصاعد، بهدف تطوير رؤيته الذاتية في ما يقوم به. لم ينحصر اهتمامه في هذا المعرض بموضوع واحد، بل توزع بين المشهد الطبيعي – المديني، والقامة البشرية والبورتريه، ومزيج من العناصر المذكورة، إذ أراد، خلال الفترة الزمنية الطويلة نسبياً التي صنع خلالها أعماله، أن يحيط بموضوعات متداخلة. هذا التداخل هو، كما نلحظ، صفة مميزة للوسط الذي نعيش فيه بشكل عام، بحيث يصعب إدراك كل واقعة على حدة. ويبقى هذا المزيج غير متضح التفاصيل في العالم الموضوعي، إذ أن للمكان المادي حيثياته، كما للمنظور الخارجي، الذي يصعب عليه شمل المؤثرات كلّها ضمن أفق واحد، لكن هذا الاختلاط يحدث في الذات أكثر من سواها. إن التفكّر في مسألة واحدة لا يمكن أن يستثني أموراً أخرى، قريبة أو بعيدة، من شأنها أن تتفاعل في ما بينها، كي تؤدي إلى هدف ما، نظري في غالب الأحيان.
يستحوذ المشهد الحضري على انتباه بعلبكي. المشهد الحضري الذي سنركز عليه في مقاربة أعمال الفنان، علماً أن المعرض يضم أعمالاً أخرى كرسم البورتريه والقامة، أو القامات البشرية في أوضاع مختلفة. المشهد الحضري، من حيث المبدأ العام والسائد، يعني أنه في إمكانك الاستمتاع بالمناظر الفنية للمدينة وسحر رسم المدن. كما من الممكن، أيضًا، مشاهدة لوحات تمثل مدينة من المدن، بحيث تُظهر لك أكثر الأماكن الملونة فيها، والملونة هنا تعني الأماكن الأكثر جاذبية وأثراً في العين. هناك رأي مفاده أن من رسم المدينة، احتفظ إلى الأبد بجوها الفريد وروحها، أو مكانتها في الثقافة العالمية. وقد تعد لوحات Cityscape واحدة من الأنواع المفضلة والشائعة بين جامعي الأعمال الفنية حول العالم. صور مناظر المدينة، مثل رسم المدينة، تسمح للعين بالاسترخاء والاستمتاع بالمنظر وحتى الحلم بالسفر إلى تلك المدينة بالذات.
وكما قلنا، هذا من حيث المبدأ، الذي تغلب عليه الرؤية "السياحية"، وربما الدعائية، الهادفة إلى تبجيل مدينة من المدن طمعاً في جذب الزوار إليها، في ايام السلم والحياة العادية اللذين نفتقدهما في بلدنا. ربما كانت تلك حال بيروت في يوم من الأيام الغابرة، لكن الوضع في الفترة الراهنة صار على درجة معينة من الإختلاف، بحيث تبدو الأيام الماضية أقرب إلى حلم ضائع في ظلام دامس. على أن الضوء بقي حاضراً، وسيبقى كذلك على الدوام. يخرج من منابعه الطبيعية التي ليس في الإمكان إخمادها، ويترك أثره في الأشياء. هذا الأثر يحاول أسامة بعلبكي عكسه في أعماله، متسلّحاً، ضمن حدود معينة، بالواقعية الإنطباعية، التي يمكن من خلالها رصد معالم الأشياء وبعض تفاصيلها، بحسب نزعة الفنان ورغباته، وقد تشير هذه المعالم إلى أمكنة بعينها. لكن الرسم، والمشهد في كلّيته، سيبقى ممهوراً بمسحة ذاتية ترتب تلك الأشياء بحسب النظام الذي أراده الصانع.
لسنا، إذاً، أمام عمل تجريدي، أو شبه تجريدي، على النحو الذي أراده نيقولا دي ستيل، حين رسم مدناً أو مشاهد طبيعية، كما أننا لسنا في صدد عمل واقعي يعود إلى نهاية القرن التاسع عشر. لقد أخذ بعلبكي من الإنطباعية ما له علاقة باللون والضوء، وهما من ركائز هذا التيار، واستعان بخطوط مبسّطة في ما يخص الرسم (علماً أنه يتقن أصول هذا النوع)، وذلك من أجل صوغ لوحة شخصية "يختلط فيها الشعري مع ذاك التلاطم العنيف، والخطر الناجم عن ذلك، الذي هو عذر من الاعذار التي ينشأها الرسم من اجل إمتاع الأعين، ومن اجل اعادة ضخ الرجاء في خضم هذه الازمنة المضطربة"، على ما يقول الفنان. لذا، فإننا أمام عمل "واقعي" وتعبيري في الوقت نفسه، فيما يشكل منحى موازياً ذا علاقة برصد عوالم بعلبكي الداخلية والعاطفية بكل ما فيها من تفاصيل مخاتلة، ومن مفارقات ذهنية. هذه الواقعية التعبيرية قد تتطلب دفق الموضوع الشعوري، أو نعومتة، عبر لمسة تضفي على مجمل اللوحات احساساً حدسياً او"مجانياً"، كما يشير بعلبكي، لا يخلو من التفكير والقلق والشعر واللحظة السينمائية، اذا صح القول، على ان النغمة الطاغية على كل شيء هو حضور الضوء.
هذا الضوء هو وسيلة للالتفاف حول هذه اللوحات، سواء في وهج الشمس، أو في مسرحية المساء الوردية على جانب المبنى، أو محسوسًا داخل المبنى القريب من ضربات الفرشاة الداكنة والخفيفة التي تضيء ببطء جانب الوجه، ودوره اليد. ومن منظور الضوء، ربما تكون الموضوعات أقل أهمية من حركة ذلك الضوء الذي يمر عبرها ومن خلالها. ومع ذلك، فإن الموضوع يحدث فرقًا، كما ورد في النشرة الخاصة بالمعرض.
وفي هذا المجال، يمكن القول إن العلاقة بين الطبيعة والمدينة والإنسان، والتي كانت محددة في السابق فقط من خلال النصوص الكتابية والتعليقات اللاهوتية، ستضعف في وقتنا الحاضر، بسبب التغيرات التي تحدث في وظيفة العمل، وبالتالي في كيفية إدراك الصورة في العالم المعاصر. وإذا كان أسامة بعلبكي قد رسم لوحة، وهي معلّقة عند مدخل صالة العرض، وتمثل مجموعة صامتة من الناس تراقب لوحة أوتوبورتربه لفان غوغ، فسيكون كمن رسم عملاً فنياً ضمن عمل آخر، كي يبين أن الكلام هنا لا قيمة كبيرة له، فالمسألة شعورية وتعبيرية في المقام الأول، وصار إدراكها أكثر سهولة في هذا العالم المعاصر، وهو ما لم يتح للجمهور العريض الذي قد يكون شاهد صورة فان غوغ الشخصية، العام 1889 (اللوحة لم تُعرض حينها على الأرجح) واعتبرها عملاً لفنان لا يجيد الرسم.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها