السبت 2024/10/12

آخر تحديث: 12:19 (بيروت)

أفكار تعيش الحرب: البيت آلة الحياة

السبت 2024/10/12
أفكار تعيش الحرب: البيت آلة الحياة
"منزل ويلي لوت فلاتفورد" للفنان الإنكليزي جون كونستابل، أوائل القرن التاسع عشر
increase حجم الخط decrease
في غمار الحرب، يتغيّر سلوك الخليقة واهتماماتها. يصبح للمنزل معنى مختلفاً عما هو عليه في أوقات السلم. في أوقات السِّلم، لا نعي الأهمية الحقيقية للمسكن. هذا المكان الذي قال عنه المهندس والفنان الفرنسي لو كوربيزيه أنه آلة للحياة، ويجب أن يكون مكانًا لهذه الحياة، وآلة للسعادة. 
 
عندما تشتد الحرب يصبح البيت ملاذاً، لكن راحة النفس تبدو قصيّة كنجمة تائهة. السعادة التي ذكرها المهندس العبقري حلم من الأحلام، ولطالما كانت كذلك، نظراً إلى صعوبة إيجاد تعريف واضح لها. تخطر في بالنا عبارة الشاعر والمغني ليو فرّيه: "مدام (متوجهاً إلى سيّدة).. السعادة ليست شيئاً كبيراً، إنها الألم في وضعية الراحة". أعتقد أن السعادة ليس في إمكانها أن تصبح حالة مستمرّة وممتدة في الزمن إلى ما شاء اللّه، بل هي عبارة عن شعور لحظوي، سرعان ما يخمده الواقع. شعرت بالسعادة البارحة، بعدما عثرت على علبة ألوان كنت أضعتها منذ زمن طويل، وشعرت قبلها بالسعادة حين نمت نبتة كنت زرعتها في الحديقة.

في المنزل، أشياؤك الصغيرة المحيطة بك، تضفي على الغرفة مناخاً من الأمان المخادع. قد لا تحميك هذه الجدران الهشّة، وهي العاجزة عن الصمود أمام آلة قتل صُنعت خصيصاً من أجل إحداث الدمار. الدماغ البشري يستثمر طاقته و"إبداعه" في كيفية صنع الأذى، وإزهاق الأماني قبل أن تتضح معالمها.

في الشارع، سيارة دفع رباعي سوداء اللون، يقودها سائق متجهّم الوجه. قد تظنّ، للوهلة الأولى، أن صدره عابق بالحزن على الوضع، وعلى أنفس بشرية ما زالت مغطاة بالركام. لكن عبوسه، في الواقع، مردّه إلى الوحدة التي يعانيها، إذ يرى نفسه وحيداً في تلك الحلبة المستديرة من الإسمنت، المحيطة بمتنزه رأس العين. لا جماهير تحتشد في المكان كي يستعرض أمامها جميلته ذات اللون الأسود، المرغوبة لدى أمثاله كدلالة على فخامة وكرّستها سيارات الأجهزة الرسمية ونواب الوطن السعداء. هذا إنسان سعيد بدوره، ولا يشغل باله سوى الملل الذي أوقعته الحرب فيه. 

والدتي تقول، هي أيضاً، أنها تعاني الملل، بعدما أبعدناها عن المدينة الخطرة إلى زاوية شبه آمنة. ما من زوايا آمنة تماماً في هذا البلد. حقيقة واضحة أثبتتها الأيام. قرب المكان المشتعل إليك، أو بعده منك، يتحدد تبعاً لطبيعة صوت الإنفجار وقوّته. يخرج جارنا إلى الطريق وينظر إلى زوايا الأفق الأربع. يدور في مكانه كبوصلة في كل الإتجاهات بحثاً عن الدخان. الأرجح أنه في عين بورضاي، وربما في دورس. حين تُقصف قرى وبلدات "الغربي" لا نسمع الصوت تقريباً. نسمع الخبر في وسائل الإعلام. عائلة بكاملها قضت تحت سقف منزلها. علينا أن نغيّر عاداتنا. إجتماع العائلة كلّها في أوقات الشدّة في مكان واحد، سياسة خاطئة. علينا أن نفرّق بين الأفراد قبل انتقالهم إلى عالم الضحايا. يجب نشر هذه النصيحة، في الصحيفة الرسمية ربما، إذا وجدنا إلى ذلك سبيلاً.

نتلّقى إتصالات من العالم كلّه. ابنة خالي من أستراليا، ابنة خالتي من كاليفورنيا، شقيقتي من فرنسا، شقيقي من إيطاليا، صديقة مخلصة من شرق سوريا، علماً أنني لم أرَ وجهها حتى اللحظة، لكني سمعت صوتها الجميل، أمي من مكان لا يبعد سوى ثلاثين كيلومتراً، لكنه آمن.. إفتراضياً. لم أعد أتلقى رسائل إطمئنان من صديقة عزيزة في بلد أجنبي يقع قرب الشمال القطبي. كانت أول من يلّفها القلق عند حدوث مجزرة. لم يعد في مقدورها إرسال قلقها. إختطفها السرطان في بداية الربيع المنصرم. إختطف جزءاً من ذاكرتي معها، إختطف جزءاً مني كذلك.

لم نعد نعرف في أي يوم من الأسبوع نحن الآن، وليس لدينا رغبة ملحة في معرفة ذلك. هذه الأيام متشابهة، وإن كانت هناك فروق تمليها طبيعة المذبحة ومكانها. كنا نعتقد، وكما أفادتنا أفلام الخيال العلمي، أن مخلوقات شريرة ستأتي، في أحد الأيام، من أحدى زوايا الكون، وسيكون هدفها القضاء على الناس الأبرياء. لم نكن نعلم، بالرغم من تصوراتنا وافتراضاتنا السابقة، أن هذه المخلوقات قريبة منا إلى هذا الحد، في بلد مجاور، وتمتلك تقنيات القتل والدمار التي لم تكن لتخطر في بال.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها