حرّك دوائر كثيرة. كانت في ندائه، عودة اسكندرانية إلى وطنية حضارية يعرفها طه حسين وميشال شيحا وانطون سعاده على اختلافاتهم. وتعرفها مصر من الزاوية الافلوطينية والكوزموبوليتية. وفي بيروت، بدا حبشي وكأنه يمارس دوراً قريباً من الهلينية، ويستعيد سقراطية البحر المتوسط ودوره في صناعة التاريخ والحضارة.
رينيه حبشي مفكر لبناني مصري النشأة، فرانكوفوني اللغة والهوى. أرسى الفكر المتوسطي انطلاقاً من لبنان: لقاء الشرق والغرب والإسلام والمسيحية والماضي والحاضر ومن منحى فلسفي شخصاني النزعة.
ولد رينيه حبشي في القاهرة عام 1915 لأب طبيب وأمّ ترقى بنسبها إلى عائلة غالي المعروفة. انهى دراسته الابتدائية والثانوية في القاهرة. حاز إجازة الفلسفة من جامعة غرونوبل متتلمذاً على يد المؤرخ الفرنسي جاك شوفالييه.
نال شهادة الماجستير في الفلسفة العام 1939 ومعها دبلوم في العزف على البيانو من المعهد الالماني برغرون. درس الفلسفة في بعض مدارس القاهرة من العام 1940 حتى العام 1950. أسس المركز الفلسفي في الزمالك القاهرة. كان العام 1953 مختلفاً في حياته وبداية جديدة. مرحلة حيوية وغنية بالتاليف والمحاضرات في لبنان. يروي حبشي في مقال له لقاءه الأول مع ميشال أسمر، مؤسس الندوة اللبنانية في أوائل العام 1953، وكان أسمر يعد لشهر نيسان من تلك السنة، سلسلة محاضرات بعنوان "العالم العربي"، تتحدث فيها شخصيات عربية تمثل بلدانها. وكان أسمر قد قرأ نصاً لحبشي وأعجبه فقصده إلى المركز الفلسفي طالباً إليه تمثيل مصر في سلسلة المحاضرات والتحدّث عن المرحلة الانتقالية بين النظام القديم والناصرية. دهش حبشي من كلام أسمر وقال له: "أنت لا تعرف مصر وأي صفة لي لتمثيلها. انا لا أنتمي إلى الأكثرية المذهبية فيها. والمركز الفلسفي أسسته هنا لأنه لم يُعط لي مجال للتعليم في الجامعة لانتمائي إلى أقلية، فكيف أمثل مصر أمام المحاضرين الآخرين؟". لكن ميشال أسمر كان حاسماً في كل شيء.. وهكذا كان قدوم رينيه حبشي إلى بيروت محاضراً بين فرحان الشبيلات (الأردن) وفاضل الجمالي (العراق).
وفي صيف العام نفسه بدأ ميشال ترتيب انتقال المفكر المصري نهائياً إلى بيروت. وأمن له ساعات تدريس في المدارس والجامعات. والمفارقة أن انتقال حبشي إلى لبنان تزامن مع وفاة المنظّر ميشال شيحا العام 1954، فأصبح المحاضر الأول في "الندوة اللبنانية" حتى نهاية عهدها. ألقى ما يزيد على أربعين محاضرة، وأصدر عشرات الكتيبات التي تناولت مواضيع متنوعة في الشخص البشري والحرية والحقيقة. ومن تيار دوشاردان الى هاملت. وغدا الفيلسوف الرسمي للندوة اللبنانية مغدقاً على المشروع طابعا فلسفياً. درس الفلسفة في الجامعة اللبنانية والأميركية واليسوعية. أسس العام 1960 معهد العلوم الاجتماعية وتولى تنظيمه وإدارته. ولقناعته مع صديقه الرئيس فؤاد شهاب، بأهمية الاصلاح الاقتصادي والاجتماعي والإنساني والتربوي، وتحت شعار أن لا شخصانية حيث لا كرامة ولا حرية للانسان، عيّن العام 1961 مديراً لمركز التصميم التربوي في اليونيسكو.
اما المرحلة الثالثة من حياته فكانت في الهجرة النهائية الى فرنسا وامتدت من العام 1969 حتى وفاته العام 2003. وفي فرنسا عين مديراً لقسم الفلسفة في اليونيسكو. ونال شهادة الدكتوراه عن أطروحة بعنوان "الفلسفة الشخصانية لدى إيمانويل مونييه" من جامعة نانتير. ودرس الفلسفة في جامعات باريس وديجون وبربنيون. وحاضر زائراً في جامعة لافال كندا وجامعات بلجيكا وسويسرا وإيطاليا. ومن مؤلفاته: "على مستوى الانسان" 1949، "الفكر الملتزم والفكر المنعتق في لبنان" 1954، "ثلاثة مفكرين امام مشكلة الوجود"، "معنى الشفقة"، "نحو فكر متوسطي الفلسفة المسيحية والإسلامية والوجودية 1958، "حيوية ثقافية موحدة"1960، "حضارتنا على المفترق" 1964، "فلسفة لزماننا الحاضر" 1964، "بدايات الخليقة "1966 و"فلسفة مشمسة" 1991.
نال جائزة مجموعة الجامعات المتوسطية 1992، ووسام الاستحقاق اللبناني 2000.
اشتغل رينيه حبشي على طروحاته الفلسفية باتجاهين: الاول حول الفلسفة المتوسطية، والثاني تماهي الوجود والحب وقراءة التاريخ. رأى أن مرض الغرب يكمن في نمو المعرفة وتشييء الانسان. وفي الشرق تكمن في شلل العناصر الانتقالية أي العلم والفلسفة وتقديس الغريزة وتسيير الوحي وفق منطقها والنتيجة غرق في السلفية والتحجر. ويعتبر أن أزمة الشرق ثقافية ويعرض استناداً إلى ألبير كامو ثلاثة مواقف للتغيير: موقف الفوضوي وموقف المحارب وموقف الشاهد. وفي مقومات طرحه للمتوسطية يشدّد على المدى الفكري لاشعاع انساني عريق للقاء الشرق والغرب وفي إقامة الحوار مع التيارات الفلسفية الثلاثة، التي طبعت القرن العشرين وهي الوجودية والماركسية والشخصانية. وأكثر ما تحتاجه المتوسطية هو تفعيل دور العقل.
ساجل حبشي، العروبيين وانتقاداتهم للمتوسطية، معتبراً أن أكثر الأفكار إضراراً بالعروبة هي التي تجعل من القومية العربية ظاهرة حديثة فتسلخها عن تاريخها المتوسطي. ورأى في القومية سبيلاً وحيداً لتخطي ثنائية شرق-غرب، لكنه حذّر من التخلّي عن هويتنا التاريخية. واعتبر أن إسرائيل أبرز عقبات التضامن المتوسطي لأنها قومية تنشأ على أساس استنهاض قومية دينية مضادة. وان إسرائيل تقوم على تناقض جوهري بين تراثها الروحي وايديولوجيتها السياسية. وأن سياسة الغرب المتعاطفة مع إسرائيل نازية جديدة ضد العرب. ودعا إلى إنشاء دولة فلسطينية تعددية منفتحة على الشرق والغرب.
تعرّض حبشي لانتقادات، فقد وصفه البعض بأنه مؤرخ للفلسفة ويجنح نحو الإيمانية. ووجد آخرون أن أناقة أسلوبه، حجاب يغطي نظامه الفلسفي. لكنه بقي في أفكاره محفزاً للتفكير وحدثاً راسخاً في تاريخ المتوسط. وصفه الفيلسوف ناصيف نصار بأنه "رائد الفلسفة المتوسطية الملتزمة"، وأن مرحلته اللبنانية هي الألمع والأحلى. واقترن اسمه بالفكرة المتوسطية اقتراناً لا يُمحى من ذاكرة حامليها.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها