ثمّة نسخ متعددة من الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب؛ سبعة بالضبط، قررها بنفسه عبر سبع نسخ مختلفة التفاصيل والوسائط توجه من خلالها إلى جمهوره، وإن كانت أفضلها على الإطلاق، أو أكثرها إمتاعًا تلك التي صدرت مجتزأة ضمن أعداد مجلة "الإثنين" العام 1938، وبدا فيها قاصًا متمكنًا؛ أديبًا، أو فنانًا، فردًا، نزقًا، يمكن له أن يترك بسهولة منصة يتحدث منها إلى محبيه من أجل نزوة صيف على باخرة تقطع مياه المتوسط إلى باريس.
رغم ذلك تفقد تلك النسخة الملهمة كثيرًا من بريقها/أهميتها إن قُرئت بمعزل عن أخواتها، أو واحدة منهن على الأقل، وربما لهذا السبب أو غيره، جمعها محمد دياب رفقة أخرى تالية عليها، نشرها عبد الوهاب في الكواكب العام 1954، وصدرت مجموعة تحت عنوان "مذكرات محمد عبد الوهاب" بعدما قام دياب بتحقيقها ومقارنة وقائعها بما جاء على لسان الموسيقار في الخمس الأخريات التي كانت آخرها العام 1984، قبل أعوام قليلة من رحيله في 1991، عن 89 عامًا بحساب التاريخ والمنطق، و79 بحسابه الشخصي!
كان عبد الوهاب مؤسسة بذاته، ليس لأنه أنتج الموسيقى والسينما لنفسه وللغير، أو لتأسيسه مصنًعا للأسطوانات مكّنه من حيازة أدوات الصناعة اللوجيستية، وإنما أيضًا لامتلاكه رأسًا يعدُّ بمفهومنا المعاصر وكالة فنية مكتملة. في المذكرات المنشورة حديثًا عن دار المرايا بالقاهرة، يشير محمد دياب إلى أن أحد أسباب خلط عبد الوهاب المتكرر بين التواريخ والأحداث في النسخ المختلفة من مذكراته، سواء تلك التي كتبها أو أملاها أو أذاعها مرئية ومسموعة، كان الحفاظ على "صورته الأيقونية" لدى المتلقي، غير أن ابن محافظة الشرقية لم يسع أبدًا لترسيخ صورة أيقونية، وإنما إصدار طبعة متجددة عن نفسه تستوعب العصر الذي يعيشه، وتضعه دائمًا في محل الصدارة منه. ويختلف المسعيان كليًا عن بعضهما البعض، فالأولى جامدة تتكئ على منجز قد يتجاوز الزمن صاحبه من دون أن يتجاوزه، أما الثانية فتقاوم ضد تجاوز الزمن للشخص والمنجز. ولعل ذلك أيضًا ما يفسر إصراره الدائم على إخفاء عمره الحقيقي، وتصدير آخر مزيف يقل عنه بثماني سنوات كاملة، والوقاية حد الهوس من الأمراض، لأنه ربما كان يريد أن يمسك الخلود بيديه لا أن يبقى حيًا فحسب.
هذا بالضبط ما توحي به الطبعتان المختلفتان من مذكراته، اللتان أثراهما دياب بتحقيق تضمن إشارات إلى نسخ أخرى تمنح رؤية أشمل، وهما تكشفان في الوقت نفسه عن شخصيتين متمايزتين حد الاغتراب وإن لم تخلُ الإثنتان من "الصنعة".
الفنان الفرد
عندما أعلنت مجلة "الاثنين"، نيتها إصدار مذكرات محمد عبد الوهاب مسلسلة بداية من مارس/آذار 1938، فإنها كانت فرغت لتوها من نشر خمسين حلقة هي مجمل مذكرات نجيب الريحاني، التي التزمت إلى حد كبير سياقًا زمنيًا متصاعدًا لأحداثها، في عصر اختبر أدباؤه وفنانوه على السواء أشكالًا سردية مختلفة ومتقدمة من سير الأعلام والمشهورين، لكن عبد الوهاب بحسب إعلان المجلة، قرر عدم التقيد بزمن متتابع لسرد مذكراته، تاركًا الحرية لقريحته في ترتيب محطات حياته حسبما تسعفها الذاكرة.
والواقع، حسبما تكشف الحلقات الـ19 المنشورة منها، لم يكن في نية "مطرب الملوك والأمراء"، غير كتابة مقالات رأي حمل بعض منها مواقف خاضها وربطته بأعلام ذلك الزمن، والدليل في ذلك أنه خص اثنين منها، أي حلقتين يفترض أن يكونا من ضمن حكايته الشخصية، بتفصيل رأيه الفني في عبده الحامولي ومحمد عثمان اللذين لم يعاصراه وبالتالي لم تربطه بهما أية علاقة شخصية أو فنية.
والدليل الثاني في ذلك أن عبد الوهاب الشاب، الذي كان يبلغ من العمر وقتها 28 عامًا بحسب منطقه الشخصي الذي كان يدعي أنه ولد في العام 1910 (والصحيح أنه كان يبلغ 36 عامًا)، لم يكن يظن أنه يستطيع التأريخ لتجربته غير المكتملة بعد، وكان ما زال يؤهل جمهوره لتقبل طور جديد منها هو طور "الموسيقار". وتكشف عنها مثلًا تلك الحادثة، التي تكاد تكون مختلقة بالكامل: "كانت أمنيتي التي أرنو إليها، وهدفي الذي أتوق إلى تحقيقه هو أن أكون يومًا رئيس أوركسترا، ومن أجل ذلك كنت أجمع أطفال "حتتنا" وأعهد إلى واحد منهم بصفيحة فارغة، وإلى آخر بزجاجتين وملعقة، وأكلف ثالثًا أن يتخذ من فمه وشدقيه آلة للعزف، وهكذا، فإذا تم تشكيل الفرقة على هذا الوجه، وقفت في وسطها وفي يدي عود من الحطب يقوم بمثابة عصا الرئيس، فإذا أشرت به إشارة البدء، أخذ حامل الصفيحة يخبط بيده فوقها خبطات موزونة، وراح صاحب الزجاجتين يضرب بملعقته صفحتيهما، وبدأ عازف "البُق" بضم الباء يُخرج بصوته نغمات مماثلة للنغم الذي يسير فيه الأوركسترا إياه، كل ذلك وأنا أشير بعصاي هنا وهناك، وكأنني مايسترو قد الدنيا". فأنى لطفل لم يتجاوز عمره الخامسة أو السابعة على أبعد تقدير -حسب حكايته- أن يحضر الأوبرا فيشاهد عمل المايسترو الحقيقي؟ ومن أي وسيط أخر قد يستقي تلك الصورة؟ في حين لم تزد حصيلته الفنية عن حضور بضعة ليال للإنشاد وقليل من العروض المسرحية البسيطة؟ وفي حين لم تكن السينما دخلت بعد زمن النطق أو الشرائط الروائية الطويلة التي قد تتسع لموسيقار وجوقته؟ على العموم، عبد الوهاب سيعيد سرد الحكاية ذاتها في طبعة أخرى تحمل التفاصيل نفسها، لكن بعد أن يستبدل الموسيقار وعصاه، بالمغني وفرقته.
الغرض من هذا التوقف أمام الماهية الفنية للطبعة الأولى من "المذكرات" وتصنيفها كمقالات، هو الإشارة إلى رغبتين مهمتين أظنهما استحوذا على عقلية الفنان "الناضج" في ذلك الوقت. الأولى التعبير بحرية عن نفسه والوسط الذي كون خلاله خبراته، والثانية صياغة صورة عن مستقبل ذلك الفنان المدلل من الملوك، أو ما ينوي الانتقال إليه في مستقبل لم يمكنه أن يتنبأ بقيام حركة عسكرية ستغير المشهدين الاجتماعي والسياسي جذريًا.
أما الوسط الذي أراده لنفسه، فكانت الطبقة الوسطى، التي هي "أعلى من الفقرا شوية وأقل من الأغنيا شوية"، وتسلك طريقها نحو "الأفندياتية" باستكمال أحد أفرادها تعليمه العالي في الأزهر (مثل طه حسين)، وارتدائه شخصيًا زيهم، البدلة الريدينغتون صغيرًا، ثم مغامراته اللاحقة مع أفندي "أصلي" هو أحمد رامي، وصداقته المتينة مع اثنين من البكوات هما أحمد شوقي وطه حسين، وطبعًا غناؤه أمام ملوك مصر والعراق وأفغانستان.
هذه النسخة "الملكية" من عبد الوهاب كانت رغم ذلك أكثر فردية وثورية من لاحقتها، تؤمن بسيد درويش، وبالتجريب وامتلاك وعي يفارق عصره، ولا تعتد كثيرًا بالجمهور الذي تضعه في محل مقولة بوتشيني "لقد نجحت روايتي وسقط الجمهور"، ويمكنها أن تقضي المساء تذكر الله في مشهد السيدة فاطمة الزهراء، ثم تستكمل ما تبقى من الليل تسكر حتى الصبح الذي تقضيه في صعلكة لا نهائية. وهي أيضًا النسخة نفسها التي تلتزم بدروس أحمد بك شوقي في الحياة والفن والأدب، وتُغني من أجل ناخب يرشح نفسه في لائحة حزب الوفد (ابن ثورة 1919) الذي يبغضه الملك.
فنان السيادة
الفن الحقيقي يُفرق لا يُجمع، إذ يخاطب الإنسان فردًا، فيمنحه شعورًا بفرديته واستقلاله، لا انضواءه كلحمة ذائبة في جسد مجتمع تحركه عاطفته لا وعيه. وهذا بالضبط ما هضمه رأس عبد الوهاب وإن لم يحمل لسانه أي تصريح عنه.
في العام 1954 أي بعد عامين من "حركة عسكرية" أطاحت الملك واتخذت مسافة من الأنتلجنسيا المصرية التي أفرزتها ثورة 1919، أصدر عبد الوهاب الطبعة الثانية من مذكراته في صفحات مجلة "الكواكب"، مكتملة هذه المرة، غير متأثرة بنزق فنان مندفع، على العكس تتبرأ من كل مظهر قد يبتعد بها عن التؤدة والرزانة.
لكنها تنتمي هذه المرة للطبقة الفقيرة من دون أن تكون "أعلى منها بشوية"، وتتبع سيرة فنان عصامي، صنع نفسه بنفسه، وإن خدمته الظروف فقربته من الطبقة العليا، فإنها قامت بذلك لتعلمه أولًا ولتؤكد أصالته ثانية. لهذا أختلفُ مع المؤرخ محمد دياب الذي يعيب على عبد الوهاب إغفاله دور الأرتيست محمد شمعون في مسيرته، وهو شخص كان يعمل ترزياً في الصباح وموسيقيًا ضمن فرقة فؤاد الجزايرلي في المساء، وهو الذي اكتشف أيضًا أن الصبي الصغير الذي ينظف محل أبيه من القماش الهالك والخيوط المتناثرة يملك إمكانية لأن يصبح فقرة فنية مدهشة بين استراحة المشاهد في عروض الجزايرلي، ذلك أن تلك القصة الحقيقية لا تناسب مطلقًا السردية التي أراد عبد الوهاب أن يصدرها عن نفسه، سواء في مرحلة الفردية التي تمد صلة إلى طبقة الأفندية، أو في مرحلة البحث عن السيادة التي تتطلب أن يكون الفنان عصاميًا مثل قادة الثورة، وفذاً في الوقت نفسه مثلهم، ولو كانت الظروف اختلفت لربما كان محمد شمعون الأساس في أي حكاية يبدأها عبد الوهاب عن سيرته.
لذلك لم تتسع المذكرات هذه المرة إلا لذِكر كل ما يؤكد هذه الصورة، فبدا عبد الوهاب "أعجوبة" يمكنها أن تنفرد بالبطولة المسرحية في سن الطفولة، وكذلك تدريس الموسيقى لتلاميذ لا تفصل بين أعمارهم الصغيرة وعمره الكثير. وإمعانًا في الجدية، فإنه يرفض الاستمرار صبيًا التمثيل مع فرقة علي الكسار التي تقدم المسرح الكوميدي، لأن ما تقدمه يجافي شخصيته الجادة الرصينة بالولادة، رغم أن الطبعة الأولى من مذكراته اتسعت لحوادث لا تؤكد غير ميله للهزل، ذلك أنه مثلًا اصطاد مرة صرصارًا لإخافة أحمد بك شوقي، طوال رحلة أبحرت بهم من الإسكندرية إلى باريس!
كان عبد الوهاب في هذه المرحلة، وقد استوعب جيدًا الدروس التي تعلمها في مقهى "صولت" من شوقي وطه حسين وسعد زغلول والنقراشي ومصطفى النحاس وتوفيق الحكيم وغيرهم. لا يرنو لأن يصبح فنان الشعب أو فنان السلطة كما يحب البعض أن يصفه للتقليل من منجزه، وإنما لأن يكون "فنانًا سيدًا"، يحوز الاثنين معًا، فالموسيقار الذي ضاع منه لقب البكوية لخصومة مع القصر في أزمنة غابرة، لم يفته العصر الثوري من أن يحوز رتبة اللواء العسكرية التي نالها في الحقبة الساداتية..
فالفنان الذي جلس في محل "صولت" للحلويات، وهو ملتقى النخبة في الثلاثينيات والأربعينيات، ووجد نفسه في مطلع شبابه يقف "على باب الشهرة كمطرب وملحن"، ويجلس "على مقعد في قلب المجتمع"، بدا أنه لا يريد أن يترك هذا الموضع أو ذلك الكرسي لما تبقى من حياته، فلا يفوت في مذكراته فرصة ليشير إلى ما منعه النظام الملكي من أغانيه، ليس ليقول إنه كان على يسار ذلك النظام، وإنما ليميز نفسه -مثلًا- عن أم كلثوم، فبينما نشطت تحرق أغانيها عن الملك في الأيام الأولى من الثورة، كان هو في بيته يتلقى اتصالًا من أحد قادتها الذي يطلب منه الإذن لإذاعة أغنيته "أخي لقد قاوم الظالمون المدى".
هذا على الصعيد السياسي، أما على الصعيد الشعبي، فتكفي الإشارة إلى ذلك التغير الجذري في موقفه من الجمهور الذي سقط في مثال بوتشيني، رغم أنه في أغلبه كان جمهور الطبقة الوسطى الذي حاز قدرًا من التعليم ولو يسيرًا، وقد صار في الطبعة الثانية من المذكرات "هو السلطان الذي يقبض يده على مقاليد الحكم في دنيا الفنون"، وهو في تلك الحالة أغلبه من الفقراء الذين أنصفتهم الثورة اجتماعيًا. تخيل الفرق بين الوعيين.
رغم ذلك كان يمكن لأي فنان آخر غير عبد الوهاب أن يسقط في أي من الفخين، فخ إرضاء الجماهير، أو فخ إرضاء الأنظمة. وإن كانت هذه الطبعة من المذكرات تحمل بين صفحاتها دلالة على ذكاء اجتماعي وسياسي، أو سمِّه "تلونًا"، فإن ما امتلكه صاحب "عاش الجيل الصاعد" من موهبة أصيلة ووعي فني استوعب عصره وتجاوزه إلى ما يليه؛ إلى 2024 أو ربما إلى 2124 وما بعدها (بالنسبة إلي فإن "جفنه علم الغزل" -مثلًا- تعبر عن حداثة أبدية)، هو ما استطاع أن يحافظ على مقعده بارزًا في صدارة الفن المصري، حتى وإن احتوى أرشيفه الفني على صورة يعتمر فيها طربوش الأفندي أو أخرى يرفع فيه رأسها بعدما "مضى عهد الاستعباد"، أو ثالثة يخلع فيها الملك عليه نيشان أو يقلده الجنرال وسامًا جديدًا في لباسه العسكري، فإنهم جميعًا سيظلون وغيرهم من صور أخرى سعى إليها بعيدين كلية عن منتجه، ولن يبقى من نسخه المتعددة، سبعة أو واحدة، غير ما قاله هو نفسه "إن العمل الفني الكامل يجد دائمًا حظه مع الجماهير، ولذلك تعودت دائمًا (...) أن أجعل التفاصيل من نصيب المؤرخين، وأن أعطي النتائج للجماهير".
(*) الصور من أرشيف محمد دياب
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها