ولعلها لا تبدو صدفة، أن تأتي ترتيبات احتفالية جمعية النهضة العلمية والثقافية (الجيزويت)، بافتتاح المسرح المقام على جزء من أرض الاستديو، بعد ترميمه، وكانت النيران التهمت بنيانه في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2021، لتعيد التذكير بنهضة تلك الطبقة، دون أفولها، بعدما قص شريطها الفاعل الثقافي المصري البارز، الدكتور محمد أبو الغار، وهو واحد من أجيال تلك الطبقة الأفندية المستنيرة، قبل أن يعزف النشيد الوطني المصري الذي ألفه أفندي آخر هو سيد درويش.
في فيلم "الدكتور"، يدور الصراع بين طبقة الأفندية الصاعدة وطبقة الباشوات التقليدية، فالدكتور الذي أدى دوره سليمان نجيب، يناضل من أجل الظفر بابنة الباشا الذي يرفضه لأصله القروي، ويمثل من خلال الدراما الروح الأفندية التي تتبنى قيمًا تمزج بين الأصالة والمعاصرة في مقابل عمالة الباشا للقيم الغربية، ثم ينتهي الفيلم به وقد انتصر لحبه أولًا قبل أن يقرر العودة إلى قريته فيشيد مستشفى لخدمة الفقراء، لأنه يؤمن بأن تنمية المجتمع هي السبيل لمقاومة الفساد والاحتلال.
الملفت أن تلك القيم التي تبنتها الطبقة الوسطى الجديدة، منذ نهاية القرن التاسع عشر، والتي كان همها الأول نقد البطريركية ومقاومتها، انتهت إلى بطريركية مماثلة جاء تجليها الأوضح في دولة يونيو 1953، والغريب أن كل ما يخص استوديو ناصيبيان يمثل بصورة أو بأخرى جانبًا من جوانب هذا التحول.
(الأب وليم سيدهم)
من الفن إلى القمامة، وبالعكس
في العام 1937، أسس المصور الفوتوغرافي الأرمني هرانت ناصيبيان، في شارع المهراني بحيّ الفجّالة العريق، استوديو للخدمات الإنتاجية للأفلام حمل اسمه، وضمّ معملًا لتحميض وطباعة الأفلام وقاعات لتسجيل الصوت والمونتاج وبلاتوه لتصوير المناظر الداخلية، ليكون ثاني الاستديوهات السينمائية في القاهرة بعد استديو مصر. وخلال 42 سنة، اتسعت جدرانه لتصوير 150 فيلمًا مصريًا، من أبرزها: دعاء الكروان وباب الحديد وفي بيتنا رجل والمراهقات والخيط الرفيع وشفيقة ومتولي، لكن الاستديو الذي هجر صاحبه مصر بعد قيام ثورة 1952، ظل يمارس دوره حتى نهاية السبعينيات، قبل أن يتوقف نشاطه الفني ويُترك لإهمال حوّله، بحسب سامح سامي، المدير التنفيذي لجمعية النهضة، إلى "مقلب للقمامة"، في مشهد يكاد يناسب ما جرى لحي الفجالة نفسه، الذي كان خلال عصر الانفتاح، أحد أهم مراكز الطباعة والنشر المصرية، ثمتحول إلى سوق للأدوات الصحية، في دليل آخر على تداعي قيم الاستنارة.
(الراهب اليسوعي جوزيف اسكندر)
غير أن الاستوديو ما لبث أن استعاد ألقه بعدما اشترته الرهبنة اليسوعية، وضمته إلى جمعية النهضة العلمية والثقافية التي تأسست العام 1998، لتضم أربع مدارس ثقافية وفنية، هي: مدرسة السينما في القاهرة والصعيد، مدرسة المسرح الاجتماعي "ناس"، مدرسة الرسوم المتحركة، ومدرسة العلوم الإنسانية، كما تُصدِر الجمعية مجلة "الفيلم" المهتمة بالسينما، لأن الرهبنة اليسوعية رأت، حسبما يقول مايكل زميط، الرئيس الإقليمي الحالي لجزويت الشرق الأدنى والمغرب العربي، إن "الفن مهم جدًا لبناء الإنسان الشامل، الذي يجب أن يجد طريقة سلمية للتعبير عن رأيه، في عصر صار التعبير فيه لا يكون إلا من خلال العنف".
لكن معنى أعمق قامت عليه الجمعية ونشاط مسرحها، سعى رئيس مجلس إدارتها الراحل الأب وليم سيدهم إلى إرسائه.
المسيح كان فقيرًا
يؤمن الأب وليم سيدهم، بأنه "يجب على أتباع المسيح الحقيقيين أن يسعوا إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، والتغيير السياسي والاجتماعي، والتآزر مع الطبقة العاملة". هذا الإيمان النابع من لاهوت التحرير الذي ترجم عنه سيدهم كتباً عديدة، يكاد يتماثل مع قيم طبقة الأفندية، ويشبه في مساره ما قام به الأفندي في فيلم "الدكتور"، أو إسماعيل أفندي يحيى حقي في "قنديل أم هاشم"، اللذان قررا إنشاء مستشفيين لعلاج الفقراء. ووليم سيدهم الذي رحل في 12 أيار/مايو من العام الماضي، وتصدرت صورته دعوة افتتاح المسرح، أفندي مثلهم، لم يأت في زمن نشأة طبقتهم في نهاية القرن التاسع عشر، أو في ركودها في الثلاثينيات من القرن العشرين، وإنما جاء بعد فشل مشروعها، ربما ليعيد إحياءه.
في كتابها "عصر الأفندية"، تحاجج لوسي ريزوفا، بأن الأفندي يصير أفنديًا ليس عبر المظهر الاجتماعي، وإنما عبر رحلة تهجر التعليم البدائي المتمثل في الكُتّاب، أو الديني الذي كان متمثلًا في الأزهر الشريف، إلى العلماني في المدارس الحديثة، ضاربة المثل بأفندية كثر تحولوا من التعليم الأزهري إلى الحديث (طه حسين نموذجًا)، أو استهلوا رحلتهم بالتعليم الحديث مباشرة (توفيق الحكيم مثلًا). وحصّل اليسوعي وليم سيدهم، تعليمه الأساسي في مدرسة كاثوليكية، ثم التحق بقسم الفلسفة في كلية الآداب، قبل أن يحصل على درجة الماجستير في الفلسفة في كتاب "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" لابن رشد، من جامعة السوربون بفرنسا.
(سامح سامي، المدير التنفيذي لجمعية النهضة)
يقول سيدهم في قراءته لتجربة لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية: "يرى دعاة لاهوت التحرير أن الانحياز إلى الفقراء في هذه اللحظة التاريخية يعني الانحياز إلى طاقة الحياة الكامنة فيهم ويتحول هذا اللاهوت من لاهوت التحرير إلى لاهوت الحياة". وخلال رئاسته الجمعية، اتسع نشاط مدرسة السينما فيها لتتخطى القاهرة إلى أسيوط والأقصر، لدعم وإنتاج أفلام مجانية تستهدف تدريب صنّاع الأفلام المبتدئين الأكثر احتياجًا، لتمكينهم من أدوات التعبير بالصورة، وذلك عبر تعلم صناعة أفلام منخفضة الكلفة. وكذلك انطلقت مدرسة "ناس"، وهي مبادرة لخلق تيار مسرحي يتفاعل مع الناس ومع القضايا المصرية ويقدم عروضه في الشارع والميادين والأماكن المفتوحة في القرى والمدن.
لذلك يبدو منطقيًا أن يعدَّ، سامح سامي، رحيل سيدهم "أفدح من حريق المسرح ذاته"، لكن المشهد ليست بتلك القتامة. فالمسرح ألهبت نيران حريقه "عقول من ينهضون بترميم البشر قبل الحجر لتحقيق العدالة الثقافية للجميع"، حسبما يقول الراهب اليسوعي جوزيف إسكندر، خليفة سيدهم في رئاسة مجلس إدارة الجزويت، الذي استشهد بقول الأب أدولفو نيكولاس: "نحن لا نريد من طلابنا أن يكونوا أفضل الناس في العالم، بل يكونوا أفضل الناس للعالم". لكن هذا المسرح يحمل في مسيرته الحديثة، سواء باستعادته في 1998، أو في 2024، مثالًا على روح أفندية جديدة، تسعى لتمكين الناس من الفن، لجولة جديدة من مناهضة البطريركية، أو ربما لتصحيح مسار ما أخفقت فيه مثيلتها القديمة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها