للوهلة الأولى، تحكي بعض الأفلام منخفضة الموازنة (جداً) قصة واقع محلي يتسع شيئاً فشيئاً، مثل عدسة الكاميرا، ليرفد نفسه بروحٍ كونية. فيلم "آيات أرضية" للمخرجين الإيرانيين علي عسكري وعلي رضا خاتمي، المعروض حالياً في فرنسا ودول أوروبية أخرى، نموذج مثالي على ذلك.
هذه الآيات الأرضية هي النظير الجوهري للعقائد المتعالية، التي يتم اتباعها في أحسن الأحوال، أو تحمُّلها غصباً في أسوأ الأحوال، دون مساءلة، لأنها تستمد إمبرياليتها من المستوى التجريبي للواقع. علي عسكري (إلى الغد، 2022؛ اختفاء، 2017) وعلي رضا خاتمي (آيات النسيان، 2017) يدمّران هذا الفضاء البارز بلا هوادة من خلال العبثية، ما يفضي إلى كوميديا مواقفية خام كاشفة، ومأسوية في عواقبها، وفوق كل شيء، عالمية تماماً. لأن القيود المؤسسية الثقافية والدينية والإدارية والنظامية ليست من اختصاص ثقافات أو أديان أو أجزاء معينة من العالم. يُظهر علي عسكري وعلي رضا خاتمي عبثية الحياة اليومية في إيران في سلسلة من المشاهد/الاسكتشات القصيرة الذكية. يشير كل اسكتش - ومجموعهم تسعة، بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة - إلى آليات إساءة استخدام السلطة والرقابة الاجتماعية والخضوع البيروقراطي التي تعكس ما اختبره أو شهده الجميع تقريباً في حياتهم.
من الواضح أن السيطرة المستمرة التي يتعرض لها أبطال "آيات أرضية" تحاكي بشكل مأسوي انتفاضة الشباب الإيراني بعد اغتيال مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق في 16 أيلول/ سبتمبر 2022، والتي تحولّت منذ ذلك الحين إلى ثورة منخفضة الحدة. صحيح أنه في الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية والثيوقراطية، تعدّ السيطرة الاجتماعية هي السمة الواضحة والمنتشرة في كل مكان للتطلعات الشمولية، ولكن لا يخطئن أحد، فلا يوجد مجتمع محصَّن ضدها، وبينما قد تتخذ أشكالاً أخرى في الديمقراطيات المستقرة، فإن النوايا تظلّ كما هي: مطابقة الفرد للمعايير السائدة، مع ما يترتّب على ذلك من الحفاظ على شكل من أشكال السلطة الاقتصادية والاجتماعية.
يوضّح عسكري وخاتمي هذه النقطة هنا باستخدام أداة بسيطة وجذرية بقدر ما هي فعّالة: في مواجهة الكاميرا، يقع البطل فريسة لمحاوره (خارج الكاميرا) الممسك بزمام المناقشة والمصير المحتمل للشخص الذي أمامه. المواقف الأولية واقعية وملموسة، والطريقة التي تتكشّف بها تقترب من الطبيعة العبثية، وتثير فكاهة مختلطة تخلّف يأساً وغصّة وتؤثر في الوقت نفسه في الإحباط الذي تنقله. الظلم منتشر في كل مكان، لكن الشخصيات، من جميع مناحي مجتمع طهران، لا تظهر كضحايا؛ على العكس من ذلك، فإنهم يقاومون الشدائد بطريقتهم الخاصة، ويصمّمون على انتزاع حصّة حرية ضئيلة من الحكّام الصغار المضطرين للتعامل معهم، ويكشفون في هذه العملية عن النفاق والتعقيد المستشري عبر هذا المجتمع المحكوم بالخوف والرقابة.
التمثيل البسيط لهذه المواقف يفضح الآلية الكلية لقوى شمولية، تتغذّى على الخوف للحفاظ على هيمنتها، من خلال قوى صغيرة تثبّتها على كل مستوى من مستويات البنية الاجتماعية، قوى صغيرة نجدها في أشكال أخرى، تحت قشرة مدنية وتنظيمية (إدارة، مؤسسة، رقابة) أو الأشكال نفسها (التحرش الجنسي، متطلبات سوق العمل، الرقابة الذاتية) في المجتمعات الديمقراطية. وفي هذا الصدد، فإن حقيقة أننا لا نرى أبداً محاوري الأبطال تساهم في هذا التأثير المتمثل في قابلية التبادل اللانهائية لأولئك القائمين على القمع والمنوط بهم ضبط الفضاء الاجتماعي والسيطرة عليه.
يشير عنوان الفيلم إلى قصيدة بالعنوان ذاته للشاعرة الإيرانية الشهيرة فروغ فرخزاد (1935-1967). يبدأ الفيلم بلقطة واسعة لمدينة عند الفجر، تبدو من الأعلى كأي مدينة أخرى، حيث ينعكس نبض حياتها في الأصوات والضوضاء التي ترتفع، بما في ذلك ترديد المؤذنين. يبدأ المشهد الأول من هذه اللوحة الجدارية الاجتماعية برجلٍ (بهرام آرك) أصبح أباً للتو. يحاول تسجيل الاسم الأول لابنه، لكن يرفض الموظف بحجه أنه غربي للغاية. تأخذ العبثية منعطفاً نحو الأسوأ عندما يستدعي مفتش المرور، في الاسكتش الرابع، صدف (صدف عسكري) لارتكابها مخالفة مرورية: يدّعي أنها لم تكن ترتدي حجابها أثناء القيادة. هل هي أم لا؟ هذا هو السؤال الأولّي، والذي يتحوّل إلى نقاش مضحك حول مفهوم المساحة الخاصة والتناقض في مطالبة الناس بإخفاء شعرهم حتى عندما يُقصّ إلى بضعة ملليمترات فقط.
الاسكتش الثامن تأمل ذاتي في حال السينما الإيرانية، حيث يواجه المخرج (فرزين مهندس) الرقابة، مجسّدة في صوتٍ ودود لكنه متلاعب لا يترك مجالاً كبيراً للمناقشة، فالسيناريو لا يعجب الموظّف المسؤول، ومن ثمّ يضطر المخرج إلى تمزيق أجزاء كاملة من قصته، ما يتركها في النهاية أشلاء غير صالحة.
في شفق المساء لهذا اليوم الكافكوي، يواجهنا رجل مئوي بوجه متكلس تقريباً، ويبدو أن شائعات الاحتجاج الغامضة التي سمعناها في بداية الفيلم قد أصبحت عملاقة عندما تنهار المدينة المهتزة في الخلفية.
تُكتسب الحرية الفردية بشكلٍ جماعي، ولكن أيضاً من خلال أعمال مقاومة يومية صغيرة تنشر روح النضال والثورة في الهواء. "آيات أرضية" دليل بحدّ ذاته على ما تقترحه خاتمته، فهو يعمل بطريقة بسيطة وبالحدود الأدني للعملية الإبداعية (صوّر الفيلم في سبعة أيام، بمشاركة أصدقاء المخرجين، وبإنتاج ذاتي)، ويعيد الاعتبار لفعالية النية الطوعية لاستعادة المرء السيطرة على حياته، في مواجهة التدخّل، والتحرّش، وانحراف البيروقراطيين، والمعلّمين، وممثلي السلطة العامة، والموظفين وأشباههم ممن يملكون قوة صغيرة تشارك في تكوين الصهارة الشمولية.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها