استضافت مكتبة السبيل، الروائي الياس خوري في ندوة عبر تطبيق "زووم"، وحاورته خلالها بانة ماضي. وتحدث خوري من منزله بعد عارضه الصحي الذي استمر لأشهر، فأجاب عن أسئلة دارت حول فعل الكتابة في زمن المرض.. فقال:
"قبل خمس سنوات كتبتُ عن الوضع اللبناني وكان بعنوان "وطني يؤلمني" ولم يكن وقتها شعور بألم جسدي، اليوم عندي ألمَين امتزجا مع بعضهما البعض. وجعان لا يمكن أن أفرق بينهما. وجع لا يحتمل، يمكن أن تنتج عنه كتابة جديدة، لكنها مخيفة، لأنها تغير الأسلوب وتبرهن أن الكتابة ليست مجرّد فعل فهم وتدقيق، الكتابة هي أيضاً عاطفة وفعل ناجم عن اختلاجات الروح والقلب، أنا في هذا المكان الصعب والمتقلّب في المعنويات وفي حالات الفرح والحزن. الألم لم ينتهِ مني بعد، ويأخذ الآن أشكالاً مختلفة. الكتابة هي فعل مؤلم بحد ذاته، هي تعبير عن الإنسان وعن دواخله وعواطفه وعلاقاته مع الآخرين. عندما تضع نفسك في هذا الوضع وتضيف إليه ألماً جسدياً هائلاً، يصبح الوضع غير معقول وغرائبياً. لكنك، رغم هذا، تصبح شخصاً أكثر تواضعاً، وأكثر حناناً ولطفاً ومحبة. أنا في هذا المكان وهذه اللحظة، لحظة الأكثر محبة وضعفاً وإبداعاً. أشعر بهذا الشيء وأرى مشروع رواية بدأتُ بكتابتها وأرجو أن تصدر قريباً لأنها رواية مختلفة تتقاطع فيها كل رغباتنا وحيويتنا الإنسانية وحبنا للحياة. في رأيي، ثمة أمران يعلماننا حب الحياة، هي الكتابة والحب، وأنا أعيش الآن بين الإثنين، وبالتالي أنا اليوم في مكان، ربما ليس جميلاً ولا ساحراً، لكني في مكان روحي واسع جداً وجديد جداً وجميل جداً".
الكتابة في زمن الإبادة
وعن فعل الكتابة في زمن الإبادة التي تشهدها فلسطين، قال خوري: "هو فعل مؤلم لأنك بعيد من الناس الذي تحبهم وتكتب عنهم وتتمنى أن يكونوا في سعادة وأمان، فإذ بك تكتشف أن الإسرائيليين أخذوا قراراً بإبادة الشعب الفلسطيني في غزة والعالم، القرار أخذه الإسرائيليون والغرب الذي قرر تحطيم هذا الشعب، وهذا ما نلاحظه من خلال اضطهاد المثقفين العرب والأجانب حول العالم لضرب الروح المعنوية للشعب الفلسطيني".
وعن أدب الصمت الذي كتب عنه، لا سيما خرس الضحية، أضاف خوري: "كتبت عن الصمت، وهو نتاج التروما، وهو أيضاً نتاج القمع والمنع، نتاج حشر الفلسطيني في الزاوية، بين القمع الإسرائيلي وقمع الأنظمة. شعب يعيش بين قمعَين، كل منهما أشرس من الآخر. وحتى يواجه هذا القمع، لجأ الفلسطيني إلى تفتيق الخيطان، وهو فعل من أفعال فن التطريز الذي يبدع فيه الفلسطينيون... هيك بيقدر يحكي ويركب ويعيد اللي صار بلغة جديدة".
وعن رواية "أولاد الغيتو" وانتقاد راوي الحكاية ورفضه تحولهم إلى أرقام، وما تعيشه اليوم غزة من طغيان الترقيم، قال خوري: "الأرقام أخذت أشكالاً مختلفة، بدأت مع الموتى الفلسطينيين الذين وُضعوا في البرادات ودُفنوا في مقابر جماعية، ثم تطورت الأرقام إلى أرقام المساجين، ثم تطورت الأرقام إلى الضحايا المحجوزة رفاتهم عند الإسرائيليين، ممارسة وحشية لا سابق لها... لكن النقطة الأهم هي البُعد الإنساني، تحطيم الروح الإنسانية. الإسرائيليون حمقى ويستحيل تحطيم روح شعب بأكمله".
وعن الرواية التي كتبها خوري وفيها الأبحاث والتسجيلات والتوثيق الشفهي، قال: "أكتب لأخلط الواقع والخيال، نحن نعيش في الخيال، حياتنا مركبة، نخبر قصص أحداثنا اليومية. ونعود بعد مدة لنخبر يومياتنا بالخلط بين الواقع والخيال. هكذا يعيش الانسان منذ وجد على الأرض كما يقول علماء الأنثروبولوجيا. أنا كتبت من منطلق إنساني، ثم اكتشفت الأمر مع القراء عندما لم يقتنعوا بأن شخصيات روايتي متخيّلة. وربما كانت الذروة مع رواية "باب الشمس". فبعد صدور الرواية بسنوات، وتحديداً سنة 2013، أقدم شبان فلسطينيون على احتلال منطقة فلسطينية وأطلقوا عليها اسم "باب الشمس" ونصبوا فيها الخيم ودافعوا عنها واشتبكوا مع الإسرائيليين. وقتها اكتشفت أن المتخيل أصبح واقعاً، مثلما الواقع يتحوّل إلى الخيال. في احدى المرات جاؤوا الى مكتب الجريدة وقالوا لي: وجدنا خليل أحمد دياب (من رواية "الوجوه البيضاء")، وهو قرب فندق الكارلتون يطرش حيطان بيروت، تماماً مثل الرواية عن الأب الذي مات ابنه في الحرب. هرعنا الى المكان وتقدمت منه لأعرف سبب هذا الفعل الذي يقوم به، فخاف مني ورمى الطلاء على الأرض وهرب. أعتقد أن الواقع يصنع الخيال، والخيال يصنع الواقع، وأنا أعيش في المنتصف بين الواقع والخيال، وهو الذي ينتج روايتي، وفي رأيي هكذا ينتج الأدب".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها